صفحات العالم

ستة أوهام سورية!


محمد الرميحي

هل يعقل أن يستمر القتل في سوريا إلى ما لا نهاية؟! وهل يمكن تبرير الصمت العربي والعالمي تجاه ما يحدث؟! هناك مجموعة من الأوهام التي آن لها أن تناقش بجدية، لإحلال العقل بدلا من التمني والتخيل. أولها القول إن هناك عصابات مختبئة بشكل ما في المدن والقرى السورية تطلق النار على الجنود والمتظاهرين في آن واحد، وهي التي تسبب كل هذا القتل أو معظمه! والسؤال: لم لا تظهر هذه العصابات عند خروج المظاهرات المؤيدة للنظام؟ فإن كانت معارضة للنظام، فهي أولى أن تظهر وتطلق النار هناك، تلك ذريعة لا تخفى على عاقل.

الوهم الثاني أن الحل الأمني هو الذي سوف ينتصر في النهاية. وهو قول ضد التاريخ المعروف للإنسانية، الحل الأمني يمكن، في أحسن الأحوال، أن يشتري بعض الوقت، ولكنه في النهاية يندحر ويفشل، ويستطيع أي عاقل أن يسرد عشرات النماذج على فشل هذا التوجه ضد الشعوب، المراهنة على الوقت لتأخير الاعتراف بالحقيقة سوف تزيد من الصراع وربما تحوله إلى أشكال أخرى أكثر عنفا. فالأصوات المطالبة بالحريات في سوريا، أصوات حقيقية نابعة من جموع الشعب، الذي صبر طويلا أملا في الإصلاح، وأعطى النظام لفترة طويلة، ما يسمى بفوائد الشك في أن إصلاحا ما سوف يحدث ولم يحدث، وكل الأحاديث القائلة إن حركة الاحتجاج الواسعة مدسوسة أو مغرر بها، أو أنها عميلة، قول لم يعد يصدقه العاقل المحايد، أمام هذه الصور التي تبث يوميا من مناطق سورية مختلفة تشير إلى التقتيل والاعتداء على الحرمات، وأمام هذه المسيرات التي تخطت حواجز الخوف، وعمليات التهميش بالغة الأذى وسجن الأجيال الطويل داخل أفكار البعث التي خويت على عروشها، فالحل الأمني يمكن أن يقتل عشرات، وربما مئات من الناس، ولكنه في الوقت نفسه يأكل من سمعة النظام ومن صدقيته على المدى المتوسط والطويل ثم يقتل أصحابه. الناس تطالب بالحريات لأنها حرمت منها طويلا وكثيرا.

الوهم الثالث أن سوريا «غير» مصر أو اليمن أو ليبيا أو تونس، ومختلفة عنها. هي «غير» من حيث الدرجة ولكنها ليست «غير» من حيث النوع، وقد أصبح الاعتراف بالخلل الحادث والمتراكم منذ سنيين هو طريق العودة إلى المنطق السليم. فتغييب الحريات تحت شعارات مختلفة وضبابية يفقد النظام على مر الوقت أنصاره، حتى المؤدلجون منهم لم يعد لهم ثقة بالإصلاح ولم يعد للشعب ثقة بهم.

الوهم الرابع أن المعارضة لها لون طائفي. ذلك بعيد عن الحقيقة لمن يعرف الأسماء المعارضة الظاهرة للعلن، ومن يعرف المناطق التي يخرج منها المتظاهرون، وحتى لمن يعرف تاريخ سوريا، فالسوريون لم يقبلوا التشطير تحت دويلات طائفية قبل قرن تقريبا، عندما حاوله المستعمر الفرنسي، وقتها لم يكن الوعي كما هو اليوم، فكيف يقبلون التفكك الطائفي اليوم بعد كل هذا الوعي الاجتماعي والسياسي؟! هناك تيار واسع من كل الطوائف والأعراق المعروفة في سوريا، من بينهم عدد كبير من العلويين، معارضون للنظام حيث يستهدف بعضهم وعائلاتهم خاصة بقسوة مفرطة.

الوهم الخامس هو الحديث عن الممانعة. وهو حديث استهلك لكثرة ما فرط في استخدامه، وحتى افتراض الممانعة لا يعني أن يحرم الشعب من حرياته ويهان في كرامته ويطارد في رزقه وتستباح أمواله، ويتحالف مع من لا يرتضيه، وهو شعار خبيث أن يكون فقد الحريات ثمنا للممانعة، ويعني، إذا قلبنا المعادلة، أن حصول الشعب السوري على حرياته يضعف الممانعة، وهو اتهام في وطنية هذا الشعب الصابر، وهو مخالف للحقيقة جذريا. شعار الممانعة سقط في أذهان الجماهير السورية ولم يعد يفي بغرض إسكاتهم والصبر على كل الإذلال الذي يعانون منه.

أما الوهم السادس والأخير، فهو الحديث عن قوى كبرى أو متوسطة أو صغيرة خارجية بعيدة أو قريبة تريد إلهاء سوريا لغرض في نفسها. تلك مقولة لم تعد تقنع أيضا، لأن هناك شعبا يخرج يوميا للمطالبة بحقوقه، يوما للاحتجاج والآخر لدفن الشهداء، إنها كربلائية مستمرة، ومهما كانت قوى الخارج فهي لا تستطيع أن تدفع شعبا للتضحية بهذا الحجم، ما يدفعه هو القهر وفقدان الأمل في الإصلاح الذي طال انتظاره.

الخطأ السوري هو نفس الخطأ المصري والتونسي للأنظمة السابقة، التقطير الشحيح في الاعتراف بالمشكلة أو المشاكل التي أثارت الناس. ليس من السهل في بيئة أمنية مغلقة كما هي البيئة السورية، أن يخرج الناس إلى الشوارع مضحين باحتمال فقد أرواحهم لأسباب جانبية أو صغيرة، المشاكل في سوريا طفح منها كيل المواطن وتراكمت وتجوهلت لفترة طويلة. صحيح أن ما حدث في تونس ومصر وفي مناطق عربية أخرى شجع الجمهور السوري وعرفه الطريق، إلا أن تراكم الأخطاء الكبرى، وتقع معظمها تحت مظلة حرمان الشعب من التعبير عن نفسه، حيث بعدها ينتشر وباء الفساد بأشكاله المختلفة، ويأتي وقت لا يمكن له إلا أن ينفجر، هو ما حدث ويحدث في سوريا. وكلما تجاهل النظام السوري الوصول إلى تلك الحقيقة، عظم الثمن الذي يدفع في اتجاهين: الأول هو دماء السوريين في القرى والمدن السورية المختلفة، والثاني استنزاف الاقتصاد السوري، فالنزيفان الدموي والاقتصادي، يشكلان مخاطرة كبرى على الدولة السورية الحديثة كما عرفت.

لا مخرج إلا بوقف مسلسل الحل الأمني، فالدنيا قد تغيرت تماما عما عرفه الساسة السوريون حتى الأمس، كل أشكال الحلول الأمنية لن تجعل المواطن السوري يعود إلى بيته ويرضى بالتصفيات والسجون والحرمان والإهانة في الوقت الذي يرى فيه العالم يتقدم إلى الحرية والمشاركة. شهر رمضان المقبل سيكون شهرا حرجا للنظام السوري، حيث من المحتمل أن تستمر المظاهرات، وأيضا من المحتمل أن تستمر التصفيات الجسدية، وهي دائرة جهنمية تتماس مع شعيرة دينية عميقة المعنى فتصبح بمثابة الصاعق للمفجر. وكلما روجعت تلك الأوهام واعترف بالحقيقة، أنه لا أسمى من الحرية، اقتربنا من الخروج من هذا المأزق الذي أوقع فيه أهل السلطة قصر النظر السياسي الذي حول الحقائق إلى أوهام، فعاشت السلطة السورية في عالم افتراضي، كلما حقنت الدماء وتيسرت الأرزاق.

آخر الكلام:

أقترح على كل المسؤولين العرب، قراءة مقال في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية هذا العدد، وجاء بعنوان «التعلم من ألمانيا»، كيف حلت ألمانيا بنظرة ثاقبة من قبل المستشار غيرهارد شرودر، معضلة تصاعد البطالة في مجتمعها، عن طريق التخطيط لتعليم وتدريب فعال. لم ينظر شرودر إلى مصلحته، بل مصلحة شعبه، أقدم على الإصلاح وفقد وظيفته بسببه، ولكن بلاده نجت من الأزمة الطاحنة التي تجتاح أوروبا اليوم، إنه بعد النظر والتفكير الواقعي لا التوهم!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى