صبر درويشصفحات الناس

سجون المعارضة!/ صبر درويش

تشير الوقائع إلى أن أغلب المدن السورية التي تمكنت المعارضة من السيطرة عليها، تواجه مشاكل جمة في إدارة شؤونها وتنظيم الحياة المدنية فيها.

فبعد أن يتم تحرير أي مدينة تبدأ الحياة بالعودة إليها تدريجياً، وتبدأ المشاكل بين السكان بالعودة من جديد، وهو الأمر الذي يفرض على قوى المعارضة أولاً تشكيل هيئات قضائية تتمكن من حل النزاعات، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وفرض القانون. يقول أبو محمد، وهو قاض سابق: “بعد خروج قوات الأسد من المدينة، تبدأ الحياة تدب من جديد، وتعود المشاكل المعتادة بين الناس لتظهر مثل أي مجتمع آخر، وبعد جهود من قبل ناشطي المدينة يتم تشكيل مخفر، وهيئة قضائية، كان مطلوب منها حل النزاعات بين المدنيين، وفرض سلطة القانون”.

في الحقيقة أغلب المدن “المحررة” خاضت هذه التجربة، لكن أغلبها فشل بذلك، حيث تم استبدال الهيئة القضائية، “بهيئة شرعية”، غالباً ما تكون تابعة لإحدى التشكيلات العسكرية المسيطرة. يقول أبو محمد: “عندما شكلنا الهيئة القضائية، حاولنا الاعتماد على: أولاً أصحاب الاختصاص من خريجي كلية الحقوق، وعلى الدستور السوري نفسه، مع إجراء بعض التعديلات عليه. إلا أن ذلك اصطدم لاحقاً بالميول المحافظة لدى التشكيلات العسكرية في المدينة، وعلى هذا تم حل الهيئة القضائية وتشكيل الهيئة الشرعية”.

تتألف “الهيئة الشرعية” عموماً من خمسة أشخاص، غالبا هم علماء دين أو أئمة جوامع سابقين، يتم اختيارهم على قاعدة الولاء والقوة الاجتماعية، وتكون المرجعية القانونية المعتمدة هي الشريعة الاسلامية، كما يزعمون.

يتبع للهيئة مخفر يضم شرطة المدينة، وهو ما يدعى عادة بكتيبة حفظ النظام، وفي المخفر يوجد سجن يوضع فيه السجناء وغالباً يكون تحت الأرض.

تفتقد هذه المؤسسات المشكّلة حديثاً إلى الخبرة، والأهم من ذلك تفتقد إلى ثقافة القانون وحقوق الإنسان. قبل دخولنا إلى أحد السجون في الغوطة الشرقية، وجهنا السؤال إلى رئيس المخفر: هل تعتمدون معايير حقوق الانسان داخل السجن؟ وهل يتمكن السجناء من الاتصال بعوائلهم والحصول على زيارات منهم؟ هل يخضع السجناء للتعذيب؟ في الحقيقة، بدى الارباك واضحاً على آمر السجن، إلا أنه رد بالقول: “نعم نعتمد معايير حقوق الانسان، ولا نتعرض للمساجين بالضرب أو غيره، كما أننا نعالج المرضى ونوفر لهم الطعام المقبول”.

بيد أن داخل السجن عالم آخر، وللمساجين وجهة نظر مختلفة. محمود سجين منذ حوالي الشهرين، يقول: “عندما ألقت كتيبة حفظ النظام القبض عليّ، انهالوا عليّ بالضرب المبرح، وبعدها اقتادوني إلى المخفر. وهناك، أثناء التحقيق، تعرضت للضرب والإهانة، حتى أن أنفي مكسور الآن وآثار التعذيب لا تزال على جسدي”. فعلاً كان محمود قد أرانا آثار التعذيب على جسده، وهو مصر على عدم وجود دليل واضح يدينه، وأن سبب التعذيب كان للحصول على اعتراف منه، وهو ما حدث فعلاً. تذكرنا هذه الممارسات بممارسات نظام الاسد في التعامل مع السجناء والمتهمين. فبالنسبة لعناصر كتيبة حفظ النظام، هم غالباً شبان في مقتبل العمر، وأغلبهم لم يتلقَ أي نوع من التعليم، بينما جميعهم لم يخضع لدورات تعليمية حول القانون وكيفية احترام حقوق الانسان، وهو ما جعل ممارساتهم، وعلى قاعدة شعورهم بالسلطة التي يمتلكونها أشبه بممارسات نظام الأسد الذي خرجوا لإسقاطه.

عبد السلام، رجل في بداية الأربعينات، تم إلقاء القبض عليه بتهمة التعامل مع نظام الأسد، يقول: “كنت أعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وحاصل على شهادة معهد متوسط، عندما قررت ترك عملي لدى النظام والعودة إلى مدينتي تفاجأت بإلقاء القبض عليّ، وتوجيه تهمة العمالة للنظام من دون أي دليل” ويتابع بالقول: “تعرضت للضرب والتعذيب وكسر أحد أصابع يدي، وكانت الغاية أن اعترف أنني متعاون مع النظام، وبسبب شدة التعذيب اعترفت على ما يريدون”.

أغلب السجناء الذين التقيناهم، عبروا عن استيائهم تجاه طريقة عمل الهيئة الشرعية، فعدا عن سوء الطرق المعتمدة في التحقيق مع السجناء، تمتد المحاكمات غالباً لأشهر طويلة، يمنعون خلالها من التواصل مع العالم الخارجي ومع أسرهم وأصدقائهم، كما لا يسمح لهم بتوكيل من يدافع عنهم. وهي سلبيات يراها آمر السجن أنها ظرفية، وأنه مع مزيد من الوقت ستحل كل هذه المشاكل. وأما كيف سيكون ذلك؟ فلا أحد يعلم. بيد أن الواضح في هذه المعادلة هو اختلال العدل بسبب اختلال حامله، “فالهيئات الشرعية” جسم غريب على المجتمع السوري وعلى ثقافته، وبذلك فلن نقع هنا على خبرات متراكمة أو أشخاص متمرسين حتى في فرض الشريعة الاسلامية، ومن هنا، يبدو أن الأحكام ناتجة وصادرة عن “الهوى”، محكومة بمعايير شخصية لا قانونية، وهو أمر يضع مفهوم العدل على المحك، ويفسح المجال للفوضى، بديلاً للعدل.

وإذا كان المشهد هنا في محيط العاصمة دمشق يبدو قاتماً، إلا أنه يبقى أفضل من تلك المدن التي تسيطر عليها “داعش” وجبهة النصرة. هناك حيث يبدو المشهد غاية في السوء، فإذا كان السجين يتعرض للتعذيب وبعض الانتهاكات لحقوقه، في مدن محيط العاصمة دمشق، فهو يتعرض للقتل في مدن الشمال السوري التي تسيطر عليها التشكيلات شديدة التطرف، حيث يجري الحديث عن أكثر من 1500 معتقل لأسباب سياسية أي تتعلق بالرأي، بينما وثقت عشرات الإعدامات الميدانية بحق الناشطين.

حقاً كما يقول النحات السوري المعارض عاصم الباشا: “كلّ ضيعة، بلدة أو مدينة تقام فيها “هيئة شرعية” لا يمكن اعتبارها محرّرة على الإطلاق”. فأساس “الحرية” هو العدل، وإذا غاب العدل حلّ محله الفساد والظلم، وهو بالضبط ما سعى الشعب السوري إلى الثورة عليه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى