صفحات الثقافة

سحر الكلمة/ ريبر يوسف

 

 

فعل ترديد كلمة بعينها على الدوام ولمرّات عديدة خلال اليوم الواحد، ذلك الفعل موثوقٌ عبر طرق لا متناهية وتاريخية بجوهر انتماء المرء الديني أو القومي أو حتى الإنسان المجرد من هذين المفهومين باطنياً، الإنسان المؤمن بالطاقة التي تحيط بالوجود عموماً.

كل كلمة تحمل دلالة ما، ممتلئة بطريقة ما بمعناها وقوتها وأساسها في لاوعي المرء، أي، بما معناه، كل كلمة تدفع بالمرء لحظة ترديدها إلى فضاء سمتها الرئيسية، مثال: ترديد كلمة الخير مرات عديدة، ومن ثم ترديد كلمة الشر مرات أخرى، ترى، هل من الممكن وصف حالة الجسد والذهن والتوجسات على أنها موحّدة ومتشابهة لدى المرء لحظة ترديده هاتين الكلمتين؟ الكلمة الأولى، ترديدها يدفع بالمرء إلى البقاء داخل هالتها الخيّرة على الإطلاق، والثانية تدفعه في البقاء داخل هالتها الشريرة على الإطلاق، ثمة أدلة لا متناهية تثبت قدرة الكلمة في تغيير مسار حياة المرء آنَ يرددها على الدوام، في سره وعلانية.

ثمة أدلة ذات صلة بالمفاهيم الدينية، أي إيمان المرء، فمثلاً، إقدام المرء المؤمن على ترديد كلمات ممتلئة طاقة إيجابية في شكل صلوات أو أدعية أو ما شابه ذلك، ذلك الفعل – الترديد، على ذلك النحو يجعله موسوماً بقوة تلك الكلمات التي رددها. ثمة فارق لامتناهٍ على سبيل المثال ما بين ترديد المرء جملة “أنا كائن مخلص لعملي”، وبين آخر يردد على الدوام “أنا كائن غير مخلص لعمله”، بطريقة ما، قوة الجملة تلك وترديدها المستمر يدفع بالمرء إلى البقاء داخل الفكرة تلك، أي، ستخلق ما يسمى ألفة ما بين المرء وهاتين الجملتين.

حسب مفهوم الطاقة، أن ترديد الكلمة مراراً على هيئة تمتمات، أقصد ترديد كلمات بعينها، يدفع بالمرء إلى إمكانية السيطرة على الظروف التي يحيا فيها، ولا سيما أنه يبرمج لا وعيه على عملية البقاء داخل هالة تلك الكلمة، الأمر الذي يجعله آخذاً شكلها وسمتها وقوتها.

لم تكن العديد من الشعارات داخل سورية والتي كنا نرددها على الدوام إبان حكم حافظ الأسد ومن بعده ابنه، اعتباطية، بل كانت شعارات مرسومة بدقة لامتناهية، كان الأمر خارج عملية أن الرئيس يرتاح نفسياً عندما يسمع الناس يرددون “بالروح بالدم نفديك يا حافظ”، لا، بتاتا، كان الأمر يحمل شكلين ومعادلتين في ذات الوقت، ترديد الناس لتلك الجملة التي توحي لهم والتي تحولت فيما بعد إلى حالة اعتيادية آمنوا بها في سريرتهم عنوة أم قناعة، جعلهم منصبين على تلك الفكرة المريبة وهي فداء الرئيس بالدم والروح، أي، كان النظام مدركاً تماماً بقوة طاقة الكلمة ومفهومها إلى الحد الذي تم توظيفها سياسياً ليحكموا عبرها قبضتهم على البلد. في حين أن المعادلة الثانية من الكلمة تلك هي، عندما يسمع الرئيس الكلمة أو الجملة تلك على الدوام ستجعله مواظباً على الخط المرسوم له من قبل مخابرات عالمية، أي، اعتياد الناس والرئيس معاً على ذاك الشعار المجهول وغيره من الشعارات الأخرى والتي كانت جميعها منصبة في فكرة بقاء الناس داخل صورة العبودية وحسب، ولا سيما أنه في زمن العبودية كانت تأخذ الصور التي كان العبيد يشاهدونها كل يوم شكل ووظيفة الكلمة التي كان الناس يرددونها في زمن الديكتاتورية داخل سورية، الصورة في زمن العبيد، أي بما معناها بقاؤهم داخل النمطية تلك كل يوم، النمطية في مشاهداتهم مثل القيود، العمل بدون أجر، الذل، وهكذا، وعبر تلك الصورة تحوّل الناس في ذلك الزمن إلى أناس مؤمنين بحالتهم ومقتنعين بها وحسب.

كانت عملية الشعارات تلك عامة وتشمل أغلب الأنظمة القمعية التي كانت ولا تزال تحكم العديد من بلدان العالم، كان ثمة اتفاق شبه علني وكامل في بواطنهم على ماهية التحكم بحياة وتفكير وطاقة الناس.

اشتغل فيما بعد النظام السوري على عملية رسائل الكلمة للناس عبر أدوات عديدة لا متناهية، لنشر ذاكرة جمعية لكافة الناس في سورية فلا يمكنهم الخروج على وجود النظام وسلطته في البلد، من باب أنه يسهل جداً التحكم بشعب يحمل تفكيراً واحداً، من تلك الأدوات كانت الأغاني الموحدة التي كانت تبث في الكراجات ومحطات الباصات والقطارات والمطاعم على الطرق الطويلة وداخل وسائل النقل عامة، الأغاني الموحدة في جميع المدن السورية وعلى الإطلاق، إلى الحد الذي عندما كنت أخرج فيها من مدينة الحسكة متوجها نحو مدينة دمشق ووصولي إليها بعد سفر بالباص كان يدوم ثماني ساعات، كنت لحظة وصولي أدرك أنه لا شيء تغير على الإطلاق، إذ إن الأغاني التي سمعتها في الحسكة هي ذاتها التي سمعتها في دمشق، ولا سيما أن الصور وشعارات الدولة على الجدران كانت موحدة تشمل جميع المدن.

في اللحظات الأولى التي تلت الثورة السورية، انتشرت بدورها مجموعة شعارات صارت فيما بعد إلى حالة شاملة تجمع أذهان كافة الناس الذين انتفضوا آنذاك، لستُ أعلم حقيقة مصدرها، إلا أني مدرك تماماً لجوهر المعادلة التي أفضت ذاتها في نفوس الناس جميعاً، حقيقة، سيطرت أغلب الشعارات الثورية آنذاك بل حتى الآن على ذاكرتنا الجمعية وأدت شكل الأغاني والتمتمات والصلوات التي رددها حتى الأطفال في سرهم، توحّد الزمن عبر تلك الشعارات، أي، بما معناه توحد الزمن الفيزيائي لدى الناس وصار الطفل والشاب والعجوز يحمل الهاجس ذاته.

كانت غالبية الشعارات موثوقة بماهية الموت وشكله إلى الحد الذي استخلصنا فيها نتيجة كلمتي الموت والدم من مفهومهما الماورائي ووضعناهما في مفهومهما اليومي المعاش. “يا درعا نحن معاك للموت”، “الموت ولا المذلة” إلى جانب كم هائل من شعارات جعلت الناس يضعون نصب أعينهم فكرة الموت لا الحياة، الحياة التي نستحقها وخرجنا وآمنا في سبيلها بثورة تبقى رغم كافة الظروف في مثابة شعاع ننظر فيه لحظات الحيرة.

في الجانب الآخر، كانت ثمة شراسة في عملية إبقاء حافظ الأسد وبشارهِ خلال تلك الصورة التي زُرِعَت في أذهاننا طوال عقود عديدة، إذ لم يك الأمر اعتباطياً بتاتاً مواظبة رجال المخابرات وعناصر جيش النظام في ترسيخ فكرة “الأسد أو نحرق البلد” عبر إجبار الناس على السجود لصوره، وإجبارهم على ترديد شعارات معينة قبل تصفيتهم.

الفكرة هي في سؤال ذي جوهر فريد “كيف نحكم ذواتنا عبر الكلمة؟”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى