حسان عباسصفحات سورية

سخرية الرئاسة السوداء/ حسان عباس

 

موسم الرئاسات العربية المتجدّدة يقدم مشهداً مصبوغاً بالسخرية السوداء الفريدة في عالم السياسة. فالصورة المنقولة لهذه الرئاسات تبعث على الضحك لكنه ضحك قاس ومرير ويائس لأن مصدره أمر خطير في حياة البلاد وأهلها. ومن هذا التناقض بين خطورة الحقيقة وبلاهة الصورة تنبثق السخرية السوداء كشكل من أشكال دفاع الناس العاديين عن أنفسهم، وكشكل من أشكال التماسك الذاتي أمام عبثية الأقدار السياسية لهذه البلاد.

فمن صورة زعيم يعيد تنخيب نفسه ويعجز عن إكمال خطابه الرئاسي وهو على كرسيه المتحرّك، إلى زعيم يبدأ تمهيده للانتخابات بأحكام إعدام لمئات المعارضين وتعمل أجهزته على تحويل صورته من عسكري إلى “معبود جماهير” حتى لتظنّ وأنت تسمع خطبه أنك أمام فيلم رومانسي مصري من الخمسينات، إلى رئيس شبح لا ترتسم ملامحه فيفرّغ المقام من صاحبه لغايات حزبية تضع مصالح الجماعات فوق مصالح الوطن، إلى رئيس مستبدٍ يبالغ في مسرحة إعادة انتخابه ليصبح كل إجراء تتّخذه أجهزة دولته التسلّطية مصدراً لسخرية سوداء مضافة.

كل هذه الأمثلة الغرائبية تشهد على الحالة العبثية التي آلت إليها أوضاع الرئاسة في هذا العالم العربي، لكن يبقى المثال السوري، وهو المثال الأخير بين المذكورة أعلاه، أكثر تلك الأمثلة مبعثاً على السخرية السوداء. بدءا من قرارات مجلس الشعب الذي يعتقد نفسه ممثلاً لشعب أين منه هؤلاء الدمى الذين يليق بهم قول معروف الرصافي: “في كلّ كرسي تسنّد نائب متكتف أعمى أصم أخرس”. إلى مهزلة الترشيح والتعدّدية التي انتهى إخراجها إلى تسمية ثلاثة مرشحين على مبدأ “العروض الثلاثة” الذي تشترطه المؤسسات لكل مناقصة معروفة نتائجها قبل أن تُفَضَّ مغلفاتها. إلى الرقابة على الانتخابات التي أبدى المجلس الأعلى للبرلمان الروسي موافقته على المشاركة فيها بناء على دعوة من رئيس مجلس الشعب السوري في مبادرة تذكّرنا بالمثل الشعبي “شهّد القط ذنبه”. إلى حملة الأسد الانتخابية، وهنا الطامة الكبرى، التي اختيرت لها كلمة (سوا) كشعار يريدونه توافقيا على كلا الصعيدين الداخلي والدولي، على الأقل كما تحاول أن تظهره الماكينة الإعلامية الرسمية وتردده كتابات المحللين الموالين للنظام، وخاصة في بعض الصحف اللبنانية.

إن الوطن النازف من الوريد إلى الوريد قد يتوافق على أي أمر اليوم إلا على اعتبار بشار الأسد رئيسا توافقيا لجموع المواطنين. ففي أي عقل وحسب أي منطق يمكن أن تستقيم هذه اللفظة التوافقية مع شعار “الأسد أو لا أحد” الذي رفعه النظام منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة الكرامة؟ وفي أي عقل أو منطق يمكن أن ينسجم هذا الشعار التوافقي مع شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي رفعه النظام قبل ظهور أي قطعة سلاح في مواجهة بطشه المبكّر، ثم حققه عمليا بتدمير البلاد؟ كيف يمكن فهم توافقية الشعار حيث ينزح 9500 سوري كل يوم بمعدل عائلة واحدة كل دقيقة حسب التقرير الذي أصدره مؤخرا مركز رصد النزوح التابع للمجلس النرويجي لشؤون اللاجئين؟

وأخيرا وليس آخرا كيف تستقيم هذه “السوا” بينما كان قد سبق للرئيس أن أعلن نفسه رئيسا لجزء فقط من المواطنين في خطاب له يوم 3 حزيران 2012 حيث قال: “وأنا أقول كي أكون دقيقا إن الرئيس هو لكل من يقف تحت سقف الوطن والدستور والقانون وإلا ساويت بين العميل والوطني وبين الضحية والجلاد وبين الفاسد والشريف وبين من يخرب ومن يبني ..”، ولسنا بحاجة إلى محللين لغوين لنعرف من المقصود في تلك التصنيفات الرئاسية.

لقد بدأت حملة الانتخابات بما تفرزه كل المناسبات “الوطنية” في عهد الحداثة الأسدية. وأبرزها مواكب السيارات الشبيحة الحاملة لمواطنين شبيحة فرحين بانتخاباتهم الشبحية، وهي عراضات تجعلنا نفكّر كم كان “جوناتان سويفت” محقا عندما قال: “المتسكع اليقظ لا يخفى عليه أن أكثر الوجوه انشراحا نجدها دائما في سيارات دفن الموتى”. يا لها من سخرية سوداء.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى