صفحات الرأي

سرديّاتنا غير المكتملة


حسن عبّاس

النظرة إلى ما يحصل في سوريا والاستجابات اللبنانية له، تماماً كالنظرة إلى ما يحصل في باقي البلدان العربية والرؤية اللبنانية له. ذلك كله واقع في مشكلة رئيسية هي مشكلة تكتنف المنطق السردي للأحداث. جلّ ما يُكتب، ينحصر في بعد واحد لموضوع الكتابة، أحياناً قليلة لقصر في النظر وأحياناً كثيرة لأن الكاتب يقدّم غائية النص على صراحة التعبير.

من البديهي أن اختيار زاوية محددة من مشكلة ما لمعالجتها، أيسر بكثير من معالجة المشكلة بكامل تعقيداتها. الإشكالية الأساسية تكمن في التفكير في بعد واحد للمشكلة وتهميش الأبعاد الأخرى حين التفكير فيها وحين الكتابة عنها. هذا أيسر لكنه يساهم في تشويش مضاف على التشويش الحاصل أساساً في فهمنا لتركيبة مجتمعاتنا وللعوامل المؤثرة في كلّ منها.

أحد المحللين السياسيين، وهو من الذين أتابع كتاباتهم باستمرار، كتب كثيراً عن مساوئ النظام السوري، وأنا أؤيده في ما يذهب إليه، وعن الديموقراطية المنتظرة بعد سقوطه. وكتب مرّة عن الخوف من وصول “الإخوان المسلمين”، في ظل كثير من المجهولات التي لا يُفصح عنها خطابها، الى السلطة في بعض الدول العربية، وسوريا ضمناً، التي انتفض مواطنوها على أنظمتهم التسلطية. تساءلت بيني وبين نفسي: كيف يكون شكل مقالة يكتبها ويجمع فيها هاتين الزاويتين للنظر إلى الأمور؟

في مقالات سابقة كتبتها حول ما يجري في العالم العربي، حاولت الجمع بين زوايا عدة. لم أستطع، بيني وبين نفسي، أن أكون حاسماً في كثير من النقاط. هي الضريبة الطبيعية للتفكير في قضايا، مجهولاتها كثيرة ومعلوماتها متحركة وغير ثابتة. لم أستطع سوى الدفاع عن فكرة سأعيد باقتضاب صوغها على الشكل الآتي: الأنظمة العربية هي أنظمة تسلطية تمتهن الكرامة الإنسانية لشعوبها، ومن هنا ضرورة إسقاطها. بعض المنتفضين على هذه الأنظمة صدرت عنهم سلوكيات وخرجت منهم أفكار لا تبشّر بالاقتراب من الديموقراطية التي نطمح إلى العيش في رحابها، فليس كل المعارضين يمكن وضعهم في تصنيف واحد صوّاني متخيّل. على رغم ذلك، يجب دعم كل انتفاضة في وجه هذه الأنظمة ويجب العمل على إسقاط هذه الأنظمة كي نتوصل إلى أنظمة سياسية تعبّر عن حقيقة الشعوب العربية وكي ننتقل من حالة الستاتيكو الحالية التي تمنع عنّا فهم الطبيعة الدقيقة لهذه المجتمعات إلى حالة تسعى فيها كل المكونات الاجتماعية الى الاتفاق على شكل من أشكال الأنظمة السياسية الذي يحقق توازناً في ما بينها.

لماذا انتقاد الكتابة المنحصرة في بعد واحد؟ السبب بسيط: إنها تزيد مجهولات إلى المجهولات الموجودة أصلاً. يؤدي هذا النمط من التفكير إلى توليد اقتناع بأن الآتي حسن، وعندما يأتي هذا الآتي القريب نصطدم بحقيقة أن الواقع لم يكن متماهياً مع آمالنا. نقف عراة أمام واقع لن يعجبنا، ما يستلزم فترة طويلة للخروج من صدمتنا ويؤخر في بلورة طرق عمل للتعامل مع واقع ما بعد الأنظمة وما قبل تحقيق ديموقراطية مستوفية معايير احترام الكرامة الإنسانية. من الآن علينا تبيّن أن البديل من الأنظمة التسلطية لن يكون ذاك البديل الديموقراطي الذي نتوق إليه. علينا تبيّن ذلك لفهم أن الوصول إلى الديموقراطية هو مسار أعقد من مجرّد إسقاط الأنظمة التسلطية.

هل يسير التاريخ إلى الأمام؟

لمدّة من الزمن هيمنت على تفكير البشر لازمة أن التاريخ يسير في خط تطوّري إلى الأمام. وُلدت هذه الفكرة من الفكر الهيغلي ومن أدبيات الماركسية الأصلية ومن أدبياتها الفرعية السوفياتية، كما وُلدت من بعض الأدبيات الليبيرالية التي عالجت مسألة التطور الاقتصادي للدول (روستو نموذجاً). في الحقيقة، لا دلائل على أن مسار التاريخ هو مسار تقدّمي، أي أن الآتي سيكون حكماً أفضل مما كان قبله. التاريخ ما هو سوى ما نبقيه من تجارب تثبت لنا فائدتها. هذه نقطة منهجية أساسية.

التاريخ يسير وفق نمط تفكير اللاعبين الأساسيين في المجتمع، ومعيار التقدّم هو معيار نسبي يرتبط بشخص الناظر وطريقة تفكيره. لا أحد يستطيع وصف المسار الذي ستسلكه البشرية لكي يتحدّث عن تقدّم أو عن نكوص. ما نريده بديلاً من الأنظمة التسلطية هي أنظمة ديموقراطية يتم تداول السلطة فيها سلمياً ووفق آليات ثابتة ومحترمة، أنظمة تحترم كرامات المواطنين الإنسانية وتصون حرياتهم وتستطيع إدارة تنوّعاتهم على اختلاف أنواع هذه التنوّعات. من هنا ينبغي التفكير لا في سلبيات الأنظمة فحسب بل أيضاً في معوقات المسيرة الديموقراطية الناتجة من تصادم في نمط التفكير ونمط السلوك لدى بعض المنتفضين مع المأمول الديموقراطي تفكيراً وممارسةً، وهذه يمكنها أن تعرقل تحقيق الحدّ الأدنى مما هو مطلوب من البدائل.

الغائية غير المبرّرة

بعض المثقفين يغيّب عن كتاباته مخاوفه مما يمكن أن ينتج عن المنتفضين بعد سقوط الأنظمة القمعية، بحجة أن نقد المعارضين المنتفضين سيُفَهم على أنه مديح للسلطة أو على الأقل هو ترسانة من الحجج يمكن أن تستخدمها السلطة. غائية دعم المنتفضين، وهي غائية أخلاقية، تمنع البعض من نقدهم. ولكن هل هذا المسلك مبرّر؟

الكلّ يعرف أزمة القراءة التي يعاني منها العالم العربي، من تدنّي نسبة القرّاء بشكل عام إلى الخيارات التي تتوجه إليها القلّة القليلة ممن يمارسون هذه العادة، وأقلّ ما فيها هي الكتابات الاجتماعية والثقافية. ممّ يخاف المثقفون إذاً، طالما أن أفكارهم لا تصل إلا إلى القلة القليلة من المواطنين، وهم في معظمهم من المواطنين غير الانفعاليين قياساً بنظرائهم الذين لا يتابعون الأفكار المكتوبة؟

الصلات التي تصل جمهور المنتفضين بالمثقفين هي صلات ضعيفة. المنتفضون لم ينتفضوا تأثراً بأفكار المثقفين، ولا هم مستمرون في انتفاضاتهم بسبب استمرار المثقفين في نقد الأنظمة التسلطية. المنتفضون انتفضوا بسبب إمعان الأنظمة القمعية في امتهان كرامتهم البشرية. واجب المثقفين الأخلاقي هو تحديد بعض المبادئ التي يجب على البديل من الأنظمة التزامها، من مثل احترام مبدأ تداول السلطة والمساواة في المواطنية واحترام حرية التعبير.

على المثقفين إعادة صوغ العلاقة التي تجمعهم مع السياسي. لطالما كان أكثر ما يكتبه المثقفون موزعاً على كتابات تابعة للسياسي، أي لـ”خطوط عامة” يصطنعها رجال السياسة، وعلى كتابات لا يصل محتواها إلى قاعدة عريضة من الناس إلا وفقاً لتأويلات رجال السياسة. هذا الواقع غير صحّي. العلاقة بين السياسي والثقافي يهيمن عليها السياسي الذي يحدّد المصلحة العامة مصيّراً الثقافي لا أكثر من تابع. لا لزوم لإعطاء أمثلة يذخر بها تراثنا “العربي الإسلامي” من الفقه السلطاني الذي يرفض قيام الشعب على حاكمه وإن يكن ظالماً مستبداً. يمكننا أن نسترشد بتاريخنا القريب ونقرأ ما كتبه معظم المثقفين العروبيين والإسلاميين بعد المحطات التاريخية التي اصطلحوا على تسميتها ثورات في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم.

لا يمكن أن تستمر تبعية الثقافي للسياسي من دون أن نحصد نتيجة لها غياباً للمعايير التي يمكن أن تسترشد بها لتقويم المصلحة العامة (من دون إضافة) لا ما يسمّيه رجال السياسة اعتباطاً “مصلحة عامة”. دور المثقف ليس قراءة الواقع قراءةً تصب في خدمة غايات سياسية عملية. هذا هو دور رجل السياسة. كثير من المثقفين الذين يتحدثون عمّا يجري في الدول العربية يلعبون دوراً غائياً شبيهاً بدور رجل السياسة، رافضين الانكفاء إلى مواقعهم المفترض بها أن تكون نقدية.

في مصر ما بعد سقوط نظام حسني مبارك، حدث، ولا يزال مستمراً، سجال مخيف حول أسبقية تعديل الدستور المصري على إجراء الانتخابات البرلمانية أم العكس. المطالبون بتعديل الدستور يتضمّن خطابهم عدم احترام حق المواطنين في انتقاء حكامهم أو عدم اقتناعهم بإمكان المواطنين لعب هذا الدور، وهو من ألفباء الديموقراطية. خطابهم يمكن تلخيصه، وإن ببعض التجاوز، على الشكل الآتي: أنت مواطن لك حقوقك ومعترف بصفتك المواطنية طالما أن خياراتك تتوافق مع خياراتي! هذا النمط من التفكير هو ما يخيف في مستقبل الأنظمة السياسية العربية. ما يخيف هو أن يتم ربط مفهوم المواطن بمجموعة من الأفكار التي ربما تكون سياسية وربما تكون دينية أو مذهبية أو قومية أو حتى قبلية. ما يخيف هو تصنيف المواطنين في درجات وصولاً إلى التبرير لذوي الدرجة الأولى قتل ذوي الدرجة الثانية غير الحائزين حق التضمّن ضمن هذا المفهوم بإطلاق.

الانتفاضات بين الدين والدنيا

العلاقة الملتبسة بين الدين والدنيا في فكر المنتفضين تثير الريبة لدى بعض الطامحين إلى التغيير الديموقراطي. أمامنا إشكالية حقيقية غير متخيّلة: كيف يقوم نظام ديموقراطي مدني دنيوي يساوي بين جميع المواطنين في ظل فاعلية الأفكار الدينية الأخروية الإلغائية في بعض نواحيها للآخر في أذهان المنتفضين؟

المرشد العام لجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، محمد بديع، رأى أن الثورة المصرية هي تعبير عن إرادة إلهية، كذلك كان تفسيره للمحطات التاريخية الأساسية في حياة الدولة المصرية في القرن الماضي. في رأيه، “كان الإخوان المسلمون أول من اكتووا بنيران الظلم والاستبداد، فغيِّبوا في السجون والمعتقلات، وتعرضوا للتعذيب والتنكيل، ولكن الله كان للظالم بالمرصاد، فبعد كل تنكيل بالإخوان كان الانتقام الإلهي شاملاً وعاماً، فعقب اعتقالات الإخوان عام 1954 كانت هزيمة العام 1956، وعقب اعتقالات العام 1965 للإخوان كانت الهزيمة الساحقة عام 1967”. في رأيه أنه “في مصر مبارك تعرض “الإخوان” للاعتقالات والسجن والمحاكمات العسكرية الظالمة، فكان سقوط النظام بأكمله عقب ثورة مصر المباركة في 25 يناير 2011، وتشاء إرادة الله أن يعود الإخوان ويفتتحوا مقرهم الجديد فوق جبل المقطم، تلك القمة التي دفن فيها رفات شهدائهم الذين قضوا في السجن الحربي، فأبى الله إلا أن يرتفع مكانهم في المكان ذاته”. هكذا هو تاريخ مصر!

الخوف من تأثير الديني في الدنيوي لا يتأتى من تفسيرات للتاريخ كتلك التي قام بها المرشد محمد بديع. الخوف الأساسي هو من امتزاج هذا النمط من التفكير بعوامل اجتماعية طائفية، ما ينعكس على علاقة المتنوعين بعضهم ببعض، ويرسيها على أسس إلغائية تبدأ في الاجتماع والسياسة وتصل إلى الإلغاء الوجودي الجسدي. الخوف هو من ملء بعض المتطرفين للفراغ الذي سينتج من زوال الأنظمة التي يجب أن تزول.

الأنظمة التسلطية في المجتمعات العربية المتنوعة، عملت على استدامة الخلافات بين الجماعات لتسهّل هيمنتها على الجميع. حزب البعث السوري مثلاً ارتدّ من ادعائه العروبة إلى قواعد اجتماعية لا تفقه غير الهيمنة على باقي المكوّنات الاجتماعية للمجتمع السوري المتنوّع. إشكالية الانكفاء في السياسة إلى رابط مذهبي هي إشكالية عمرها قرون طويلة تبدأ منذ الفتح الإسلامي، وهي إشكالية أطلت برأسها في حقبات كثيرة من التاريخ العربي المليء بعدم التسامح بين الجماعات المتنوّعة. فهل الانتفاضات الحالية ستحلّ هذه الإشكالية المزمنة؟ وهل لفت النظر إلى تجسّد هذه الإشكالية في بعض ممارسات بعض المنتفضين هو دعم للأنظمة الفاسدة التسلطية؟ هل هي مشكلة مفتعلة خطابياً لتُحمَل على هذه المحامل أم هي مشكلة حقيقية تعاني منها مجتمعاتنا العربية؟

مَن ندعم بالتحديد؟

ليس على المثقفين لعب دور الناطق الإعلامي باسم المنتفضين العرب، مع ما يحمله دور كهذا من بروباغندا تعمل على إخفاء الشوائب وعلى اختلاق الإيجابيات. الدور المنتظر من المثقفين هو أكبر من ذلك بكثير. المنتظر منهم قراءة ما يحصل أمام ناظريهم قراءة واقعية تحليلية أمينة لا تستبعد الحديث عن بعض المسائل لمجرّد أنها لا تصبّ في مصلحة مفترضة.

في سوريا أجهزة القمع والعصابات التي تربط وجودها باستمرار النظام السوري، تسفك الكثير من دماء المنتفضين، وفي سوريا أيضاً بعض المنتفضين يمارسون أكثر من الدفاع عن النفس. هذه هي سردية الانتفاضة السورية الكاملة على مستوى الوقائع. ليس أخلاقياً التغيير الخطابي في الوقائع. المطلوب فهم الواقع السوري بتعقيداته وبما يمكن أن يتمخض عنه من ايجابيات ومن سلبيات، ليس دعماً للنظام البعثي المتسلط والفاسد بل للتنبه من الآن إلى ضرورة العمل على الحدّ من السلبيات المنتظرة على عموم السوريين، وخاصة على “الأقليات”.

خطاباتنا السياسية والثقافية يكتنفها كثير من التناقضات. في سوريا تنتشر مقولة أن النظام السوري يكره الفلسطينيين لكنه يدعم القضية الفلسطينية. وفي لبنان كثير من السياسيين و”المثقفين” يدعمون انتفاضة الشعب السوري مع أنهم عنصريون تجاه أبناء الشعب السوري. خطاباتنا التي نصوغها متناقضة في معظمها، إلى درجة نتساءل معها: هل نصوغ خطابات حداثية وديموقراطية أم فقط نصوغ خطابات مصلحية تنطلق من رؤية ضيقة للأمور؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى