مراجعات كتب

سركون بولص: رسالة غامضة إلى العالم/ ابتسام عازم

 

 

“سافرت ملاحقاً خيالاتي” هو العنوان الذي حمله كتاب صدر حديثاً عن “دار الجمل” يحمل في طيّاته 22 حواراً مطوّلاً وغنيّاً أجريت خلال عقود في مدن ومراحل مختلفة مع الشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944 – 2007).

ولد صاحب “الوصول إلى مدينة أين” بالقرب من مدينة الحبانية في العراق، قبل أن ينتقل ليعيش في مدن عراقية أخرى مثل كركوك وبغداد، ويسافر بعدها إلى بيروت ومنها إلى أميركا؛ سان فرانسيسكو تحديداً، التي عاش فيها أكثر من عقدين، طاف خلالها بلداناً عدة إلى أن رحل في العاصمة الألمانية برلين.

اقتُبِس عنوان الكتاب من عنوان فرعي للمقابلة التي أجرتها معه الروائية السورية سلوى النعيمي عام 1996 في باريس، يقول فيه بولص: “تتداخل الأزمنة في تلك اللحظة وتنصهر، الزمن الشخصي والزمن الجماعي يتوحّدان في الشاعر، خاصة الغريب. وأنا أعتبر أن على الشاعر أن يكون غريباً دائماً لا ذاك الذي يعاني ويتشكّى بل اختار الغربة اختياراً، مسلكاً خفياً”.

يأتي هذا الكتاب ليقدّم للقارئ العادي والباحث الأكاديمي شهادات حول أمور عديدة، منها الشخصي وذكريات الطفولة والشباب وأحلامها والصداقات واللغة/ات الأم والوطن والغربة، كما يعرض أفكاراً أكثر تعقيداً حول الشعر والحداثة وغيرها.

لغة الحوارات، أجوبة بولص، تأتي من دون تكلّف وبلغة رشيقة وواضحة بلا عبارات فضفاضة أو تنظير زائد ومن غير أن ينقصها العمق أيضاً. إنّه الشاعر الذي يتحدّث مرّة من داخله وتارة أخرى ينظر إلى ذاته من خارجها، ويترك عين التجربة والمعرفة والنقد الذاتي تحلّل. إنه الشاعر الوحيد المتهجّس دائماً، حيث يرى أنه “علينا أن نفقد الثقة بالعالم. عندما أرى إنساناً واثقاً من العالم أخاف منه. كيف أثق بأن القطار الذي يحملني لن يتفجّر بعد قليل، أو أن مجنوناً سيدخل المقهى حاملاً رشّاشاً يقتل مَن أمامه”.

وعن طفولته وانتقاله من الحبانية إلى كركوك في عمر الثانية عشرة، يقول صاحب “الأول التالي” إنها “لم تكن صعبة (النقلة)، كما قلت، الطفل يعيش بعالم خاص به، والعالم كلّه مجرّد كرنفال بالنسبة إليه، الطفولة العارمة وتلك الروح الطفولية تتغلّب على كل شيء، لأنها تستطيع أن تُخضِع العالم بما يستجد منه لخارطته الخاصة”.

في الحوار، الذي أجراه معه عام 2001، يتوقّف الشاعر العراقي خالد المعالي وناشر سركون، كثيراً عند طفولة الأخير وعلاقته بشعراء وفنانين عراقيين آخرين عرفهم بشكل شخصي كما يقارب محطّات من تاريخ العراق السياسي الحديث وعوالم لم تعد موجودة في ذلك البلد، بعضها منسي مثل المذابح ضد الآشوريين وغيرها، موضحاً “أكثر من عاشوا في الحبانية جاؤوا من الشمال، حيث كانت معارك مشهورة: مذابح الآشوريين التي اشترك فيها بكر صدقي والأكراد، والفرس، والأتراك والعرب. وهي مذابح مشهورة تاريخياً، وأكبرها مذبحة “سميل”، وقد كتب عنها الكثيرون، ومنهم مصطفى جواد”.

لا تقف تلك الحوارات فقط عند أحداث سياسية من تاريخ العراق، بل تتطرّق كذلك إلى التاريخ الاجتماعي، بسرده لبعض من محطّات طفولته وفي حضوره في شعره بطرق مختلفة، ومنها قوله: “لأن السياسة في الشعر الحديث ليست بالضرورة هي الكتابة التي شاعت عند شعراء معروفين بأنهم شعراء سياسيون كنيرودا وناظم حكمت وآخرين… إذ أعتقد، أنا شخصياً، أن جميع الأحداث التي رأيتها وصدمتني، موجودة في شعري”.

لكن الشاعر الغريب أو المتغرّب لا بد وأن يتأمّل كذلك حضارات شعوب أخرى وإرثها التاريخي والثقافي، بعضها عن طريق القراءات ليغنيها بعد ذلك وجوده في الحيّز الجغرافي والحياتي هناك، وهو ما يتطرّق إليه سركون بولص في أكثر من موضع في الكتاب.

يشير بولص في لقاء مع الكاتب العراقي برهان شاوي إلى أن هناك “فائدة كبيرة ومذهلة [للشعر]، فلا ادعاء بإنقاذ المجتمع ولا أية فخفخة ثقافية بأن الشاعر نوع من الرسول الاجتماعي، وإنما هو جسر إلى الخلاص الشخصي، وإذا حدث ذلك بشكل صادق فالخلاص الاجتماعي أيضاً، لأن الشاعر نواة المجتمع، إنه (لبّ) الإنسان، وبالنسبة لي إن رسالة الشاعر الحقيقية هي أن يكون من خلال شعره، من خلال معاناته للزخم الكامل والطاقة القاتلة التي يستجلبها العمل الشعري، هي عملية عذاب طويلة جداً، لكنه في النهاية أنجز شيئاً واحداً هو أنه خطا (بفكرة الكتابة الشعرية) خطوات في المستقبل، أي أنه دفع عجلة الشعر إلى الأمام، وهذه هي الرسالة الحقيقية للشاعر، إنها رسالة غامضة ولا أعرف أي شاعر في العالم قد فهم رسالته، إلا ربما في لحظة موته”.

هذه الحوارات تشكّل وثيقة تاريخية، حول الشعر والإبداع والمجتمعات في العراق وبلدان عربية والولايات المتحدة، وهي شهادة على زمن مضى تهمّ الباحثين وقرّاء شعر سركون بولص، ضمن حوارات طويلة متأنّية تبحث في عوالم صاحبها، وتبدو مغايرة عن كثير مما هو سائد اليوم في زمن تكاد تختفي منه الصحافة الثقافية المهنية المكتوبة.

_________

اللغة أمّ غريبة

يقول سركون بولص في أحد حواراته في الكتاب: “اللغة هي الكلُّ. عالم كامل: السابق والآتي. القاموس، هذا الشيء الغريب، يحتوي كل شيء في حالة موات في حالة سبات، يأتي الشاعر ليوقظه، برفسة إن احتاج الأمر. هناك مصطلح اللغة الأم، فعلاً اللغة أمّ غريبة، أمّ قاسية، والشاعر يحاول أن يذكرها ببعض الحنان. العلاقة بين الشاعر واللغة مختلفة عن علاقة الآخرين بها. إنها علاقة مثيرة يمكن له بواسطتها أن يفجّر العالم”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى