صفحات الثقافة

سعدي يوسف الذي فقد ظلّه/ سعدية مفرح

 

 

متى ينبغي على الشاعر أن يتوقف عن نشر ما يكتبه من قصيد؟ الشاعر يشيخ، والقصيدة تشيخ، وقلّة من الشعراء الذين يقررون أن يتوقفوا عن النشر، على الأقل، عندما يدركون أن نبع الشعر عندهم جف، وأنهم لم يعودوا شعراء، أو أن ما يكتبونه لم يعد يليق أن ينشر، فيوضع في مواضع المقارنة مع ما سبق أن نشروه.. قلّة من هؤلاء يفعلون ذلك، أو يجدون من يقنعهم بذلك أو يصدقون من يقول لهم ذلك فيقتنعون، والشاعر سعدي يوسف ليس من هؤلاء.

واضح، ومنذ عقدين تقريباً، أن سعدي يوسف لم يعد الذي نعرفه من مشاغل الأخضر بن يوسف، ولا من إعلان الحاج عمران السياحي. لم يعد ذلك المغني تحت جدارية فائق حسن، ولا الوحيد الذي يستيقظ على جنة المنسيات. ولم يعد الشاعر الذي تورّمت قدماي، مطلع التسعينيات، وأنا أبحث عن أعماله الكاملة في معرض الكويت للكتاب، حتى أشفقت على نفسي، وعلّقت حلمي الشعري يومها بمن سيبحث عن أعمالي الشعرية ذات يوم حتى تتورّم قدماه!

التغيير سنّة كل الشعراء، ومضمار قصيدهم، وهو على طريق الابتكار الذي هو زاد الشاعر ومعاشه أيضاً، لكن التغيير لا يعني أن ينقلب الشاعر على موهبته أولاً، قبل أن ينقلب على مواقفه ومبادئه، من دون أن يعلن ذلك، ومن دون أن يعترف بذلك. أعني أن الشاعر، والمرء عموماً، يتغيّر، وربما ينقلب فعلاً على مبادئ آمن بها سابقاً، عندما يتهيّأ له أنها لا تناسبه، أو لم تعد تناسبه. لذلك، ينبغي أن يفعل ذلك بوعي وبصراحة ووضوح، وعندما يكون شاعراً يظهر ذلك في شعره بلا لبس عادة. لكن الثوري الأحمر، سعدي يوسف، الذي تكشّف، قصيدة بعد قصيدة، وكتاباً بعد آخر، في الأعوام العشرين الماضية تقريباً، عن وهم الحس الثوري وبلادة الشعر، عندما يتحوّل إلى منشور، تغيّر بشكل مؤسف لمن أحبه، وأحب سيرته الأولى، وموهبته العالية.

منذ أن نشر الشاعر الذي يحلو له أن يتسمى بالشيوعي الأخير، كتابه الشعري “أيروتيكا”، والذي رأى فيه بعضهم نسخاً ممسوخاً لقصائد اليوناني كفافيس، وهو يتردّى من نصوصه الشعرية العالية وترجماته الأدبية الرفيعة إلى إشاعات رخيصة، تطلع من دائرته الضيقة، وأخبار صغيرة غير لائقة، وتهافت لا يليق بمن علّمنا كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته، وسجل يوميات الجنون الجنوبية. والأمثلة الصغيرة كثيرة؛ من إشاعة كتابته روايةً لأحلام مستغانمي، مدعّمة بقصيدة له، إلى خبر سحب جائزة العويس منه، إلى خبر التداعي لحرق كتبه في العراق بعد نشر مقالته عمّا سماه عراق الشيعة، وقبلها نشره قصيدة “طائفية” قميئة، أراد منها الإساءة لمقام النبي محمد صلى لله عليه وسلم والسيدة عائشة رضى الله عنها، .. ويطل الآن على المشهد العربي المكلوم بنص عن الحادث الإجرامي الذي ارتكبه متطرف داعشي من تونس ضد سياح على شاطئ سوسة التونسي، ينحاز فيه للقاتل المعتدي الذي وصفه بطالب العلم، الفتى القتول الضحاك، ضد ضحاياه، واستدرج لذلك ذكرى اللبنانية الفدائية الشهيدة، سناء محيدلي، التي قامت بعملية استشهادية ضد جيش الاحتلال الصهيوني، منتصف الثمانينات، في تشبيه بائس وظالم. بعد أن قارن فتاه الضحوك القاتل الذي قضى مقتولاً على أيدي رجال الأمن التونسي في الشاطئ نفسه الذي ارتكب فيه جريمته، باستشهاد المناضل الفلسطيني أبو جهاد على يد الصهاينة، في شاطئ تونسي آخر… هكذا يقارن سعدي يوسف بين الحالين، من دون أن يشعر بالخجل من نفسه، ولا من فلسطين.

أي بؤس أكثر من هذا يتردّى فيه هذا الشاعر الذي فقد ظله الشعري الجميل على الأرض العربية، حيث يعيش، الآن، في بريطانيا على حساب أموال دافعي الضرائب، وهو يبرر قتل سياحٍ، جلّهم من البريطانيين؟ أي مستنقع يترك شعره العذب لينحدر إليه، ويساوي فيه بين قاتل قتيل ومناضل شهيد، أو بين داعش وفلسطين؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى