رستم محمودصفحات سورية

سعياً لقتل “الإنسان الكامن في الأجساد”


رستم محمود

يفتك النظام السوري بضحاياه دون هوادة، يفتك بالذات بأجسادهم، فجسد الضحية هو المرمى وهو الهدف المراد تدميره وإنهاكه، وكأنه لا يرى في تلك الطرائد، في ضحاياه، سوى أجسادهم. معادلة بسيطة يمكن تركيبها هنا حسب سلوكيات الطرفين، النظام السوري وضحاياه: في العداوات المستحكمة المباشرة بين الخصوم، يبحث كل خصم عن جوهر الخصم الآخر لرصده وإنهاكه، جوهر يرى فيه العدو ويختصره به، ويعتقد أن بتوجيه الضربة لذلك الجوهر وإنهائه، إنما يوجه الضربة للخصم وينهيه هو بذاته. النظام السوري لا يرى في الضحايا غير أجسادهم، ينهكها ويقتلها ويفنيها، فيعتبر جوهر الضحايا. لا يرى النظام، ولا تعي بصيرته، ما كان قد اكُتشف في أجساد الضحايا عقب الثورة الفرنسية الكبرى، ما سمي بـ”الإنسان الكامن في الأجساد”. فقد حور ذلك الاكتشاف البسيط من مقاصد التعذيب ومراميه، حيث بات الإنسان بملامحه وتعابيره الشتى مستهدفا، لا جسده فقط. حيث حلت الفضيحة مكان التعذيب الجسدي، والإدانة القضائية مكان التكفير..الخ. لا يكترث النظام لأي شيء في الضحايا غير أجسادهم وإنهائها، وكانه بالمقابل أيضا، لا يهمه شيء في ذاته غير جسده وبقائه حيث هو، لا تهمه فضيحته وسمعته وما سيكتبه التاريخ عنه، ولا يهمه عذاب ضميره ومعناه ودوره ومكانه ورضاه عن نفسه. النظام السوري يعي ضحاياه وكأنهم كائنات يعيشون في زمن “ما قبل اكتشاف الإنسان” في الأجساد، لأنه اساسا يعي ذاته بتلك الطريقة.

لا يشكل النظام السوري حالة استثنائية فريدة في ما يمكن تسميته بـ”سيمياء المكان”، المكان الذي كان يوما بلاد الشام والرافدين وحضارتهما. فإرهابيو العراق يفجرون أنفسهم دون أي معرفة بالضحايا، ودون أي تفسير لما يفعلون. حكومة العراق “المنتخبة” لا يُعرف من من مكوناتها يدعم الجماعات الإرهابية التي تفتك بأبناء البلد، ومن منها يهرب نفط بلاده وينفذ مخططات بلد آخر لا يريد للعراق خيرا. في لبنان لا تكمن المصيبة في حزب يمسك البلاد من ألفها ليائها بقوة السلاح، تحت شعار “المقاومة”، بل الأفظع أنه تحت الشعار نفسه، يمنع، بالإرهاب الجسدي المباشر، بعض المثقفين من التعبير عن رفضهم للقتل والتدمير وعبثية العنف، وأنه تحت شعار “المقاومة” ووصاية سلاحها، يمنح القتلة في غير مكان من هذه الربوع، أكثر من صك غرفان، ويمنح القتيل صكوك التشكيك كلها. على غرارهم تنفذ الهمجية الإسرائيلية حصارها وقتلها للشعب الفلسطيني كله، دون تميز، ولا أفق لنهاية هذه الهمجية المفتوحة منذ ثلاثة أرباع قرن. يغدو السؤال الكبير في كل تلك المناطق وعنفها : لماذا تحيا هذه المجتمعات التي كان لها دور واضح في حركة التاريخ، وعرفت نموا وحركة اجتماعية وثقافية ومدنية مديدة، ان تعيش هذا العنف المفتوح والمباشر والقاسي!؟

غير الفيصل الأول، حيث لا يرى القاتل في ضحاياه سوى أجسادهم لينهكها، فلا يستهدف سوى إنهائهم، عبر إنهاء أجسادهم، بينما لا يرى الضحايا سوى “الإنسان” في أجساد قتلتهم، ويمنون النفس بأن يصرخ ذلك “الإنسان” العميق في ذات القاتل يوما، ويقول له: كفى. غير ذلك، ثمة فيصلان آخران بينهما.

فبينما لا يحمل القتلة أي قضية ومشروعا وأفقا لأفعالهم وأدوارهم وأسباب ممارستهم لعنفهم، فان الضحايا في المقابل يحملون ويحلمون بأفق يعتبر الأكثر اخضرارا وحيوية في تاريخ هذه المناطق، مشروع يأمل بدخول حركة التاريخ وتبني القيم الإنسانية. لا القاتل في الضحايا سوى “الرعاية الذين ضد الملك” مقابل ذلك فإن الضحايا لا يرون في قتلتهم سوى “روح ماضوية ضد التاريخ والمجتمع”. فالملك والمُلك، هما القضيتان الوحيدتان للقتلة، بينما التاريخ والمجتمع قضيتا الضحايا، لذا فأن القتلة بكل جبروتهم الظاهر، يبدون الأكثر قلقا وتشنجا، بينما يظهر الضحايا أكثر ثقة واسترخاء وأملا. فليس قليلا على القتلة أن يواجهوا جبروت التاريخ، وبالذات، حين وصل إلى عتبات أبوابهم، أو عبرها. وهم لا يملكون في جعبتهم أي رد عليه، فيفتكون بمن يحملونه لهم.

من جهة أخرى، لا ينال الضحايا قصاصا عن أي فعل أو جرم مارسوه بحق أي قانون مكتوب او عرف مجتمعي أو إنساني متبنى، بينما يخالف القتلة كافة القوانين والأعراف والبداهات المجتمعية والقانونية العالمية الإنسانية منها، والمحلية العرفية منها. فالضحايا يقتلون، دون أن يتمكن القاتل من تسويق أي تبرير أو معنى لفعلته، دون أن يوجه أي تهمة لضحيته، ودون أن يعاقب أي فاعل وناشط وضحية بغير عقوبة المسّ الجسدي المباشر. مقابل ذلك، فأن الضحايا يدفعون دوما لتكون المواجهة في العلن وبمراقبة الغير وتحت أية وصاية أو مراقبة قانونية، ومن أي طرف كان، فكأن الضحايا يستندون على قوة ودعم الأعراف والقوانين والمنجزات الفكرية الإنسانية كلها لهم، حيث يغالب لاوعي القاتل مخالفته لكل المنجز الحقوقي الإنساني. وربما هذا بالضبط ما يدفع الطرفين لاتخاد موقفين متباينين تماما من فكرة الإعلام، فبينما يستميت الضحايا في سبيل إظهار وكشف وإعلان ما يمارس بحقهم، يستقتل القاتل في محاولته طمس كل ذلك.

أن يكون القاتل والقتيل بذينك الموقعين غير الطبيعيين فان ذلك يدفع لتبني شعورين متباينين في الآن ذاته. فتلك القوة الفاتكة التي بيد القاتل مع درجة عالية من ما يعانيه من قزمية في أفقه ووعيه التاريخي، قد تدفعه لممارسة المزيد من البطش والوحشية بحق ضحاياه المستضعفين حسب إحساسه. لكن ظرف الضحايا المتمكن والمستملك لدفة حركة التاريخ، يدفع بالرغم مع الحزن على آلام الضحايا، لمزيد من الأمل.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى