صفحات الثقافةمحمد كتيلة

سقط النظام وتدحرج، فممن أنت خائف ؟


محمد كتيلة

نستيقظ صباحاً… في أواخر الليل أو عند أطرف النوم المتقطع، على أمل هارب في نشرة الأخبار، يؤجل خبر سقوط الضحايا إلى مابعد إذاعة خبر عاجل يعلن عن سقوط النظام، أو موعد التنحي أو ساعة الرحيل… وقد لاننام أبداً خوفاً من كوابيس النهار وشدة القتل وتنوع الفظائع والعنف الذي يمارس على هذا الحشد الرائع المتقطع الأوصال، ما بين قتل وإعتقال وتعذيب وتهجير وتدمير للبيوت والمحال والممتلكات والقرى، والذي لم يعد يخشى الموت بل المذلة والإمتهان الرخيص والمبتذل لكرامة الوطن والمواطن .

لا نذهب للنوم من أجل النوم، وليس بسبب التلف المتواصل للأعصاب مما نسمع ونشهد ونرى، بل هرباً إضطرارياً لنحمي ضعفنا إزاء المشهد المرعب الذي يبكي الحجر، ولكي نحمي وجودنا الأعزل، وخجلاً من وجوه الضحايا وتعنيف الضمير.

ننام على أمل مشروخ متصدع، عمره الإفتراضي نصف قرن، أما الواقعي البائس الخجول المخزون في دياجير الروح وديار الجسد النازف المجروح، فهو يتراوح ما بين آلاف الضحايا والمجازر… وإعتقال مؤبد وبلا توقف للوطن، ونهب وسلب متواصل لشرايين الحياة والبشر، براً وبحراً وجواً ولكل خلية حية تنضح بالخير.

سقط النظام، تدحرج وترنح وها هو ينحني على أبواب قيامته، يتخبط بدم ضحاياه وسط زحام الجماهير التي عافته وفاض بها السأم والسخط والقرف، إلى درجة تجاوزت حد الغليان فأدت إلى هذا الإنفجار الصارخ المعلن الواضح… في البداية تنحنح، وبعد مئات من القتلى تحشرج، وبعد الآلالف من المجازر والفظائع التي إرتكبها  لم يعد بإستطاعته العيش إلا وأصابع يده تضغط على الزناد ولا ينام ويصحو إلا على رائحة الدم كالذئاب.

بإسمك أيها الصغير التائه المتردد الحائر يقتل القاتل الجائر فممن أنت خائف، من الساقط المرتجف أم من الضحية ؟؟ فإذا كنت تُصدق القاتل فأنت شريكه في القتل وفي كل مذبحة، وإذا كنت تُكذب الضحية وتتنكر لها من أجل سقط النظام فأنت كريه وسفيه وخائن… فيما مضى، أي قبل أيام معدودات كان النظام وكان الإستعلاء والتكبر والنفاق والزيف والدجل، أي قبل هذا الميلاد الجديد، يوم كان الهمس جريمة واللغة ممنوعة من التصريف وخائبة غائمة، ولا تكفي لمودة بين إثنين إلا بموافقة النظام … هناك، أي قبل الآن بقليل من الوقت والصمت المهجور، في ذلك الزمن الذي إغترب وولي وهرب وابتعد مسافات ومسافات وأجيال، كان الطاغية يُتمتم والكل يسمع تُرهات وخزعبلات، يكذب ويفتري والجميع يهلل ويكبر، يقتل ويعتقل من يشاء وينهب ويسلب وممن يشاء، لكن الآن وبعد أن أصبحنا جميعنا في صلب المشهد، إلى أين ستذهب بخوفك أيها الصغير المتغطرس  المفلس، لقد تقطعت سلاسل ذلك الزمان وتهتكت، وما تراه الآن هو عين الشمس، فمن يُقتل في الشوارع هو أنت ومن يقتلك هو ذاته لم يتغير… وما يسيل من الأجساد على تراب الوطن ليس ماء ولا ندى الصباحات المغسولة بالياسمين، بل دم ودم، دم يتعفر يصرخ، يأن يتعثر ويتبعثر في كل مكان وبالمجان… وهو دمك وقد تسرب من وراء خوفك وصمتك، وربما هو دم أمك وهي على سجادة الصلاة، أو دم أبيك وهو يناديك لتسعفه أو لتساعده على إلتقاط أنفاسه الأخيرة من جراء طلقة كانت تستهدف غيره لكنها غيرت طريقها فأصابته هو ومن ثم أردته قتيلاً على قارعة الطريق أو في مدخل البيت !!

ما تراه وتتنكر له دم، وله إسم وعائلة وشهادة ميلاد وعلم وطن تلطخ بالدم… وله حلم لا يبتعد عن حلمك وحلم أطفالك… يطلق الرصاص نسمعه جيداً لكننا لا نراه إلا بعد حين، بعد أن يثقب الهواء ويلوث الماء ويثقب قلوب ضحاياه ويغير من طبيعة أجسادهم وأشكالهم… وحده القاتل من يضغط على الزناد يعرف الهدف، يصوب عليه ودون أن يرتجف، ونادراً ما يخطئ الهدف ومن هو حوله ومن هو في عين الهدف… وأنت أيضاً هدف ومستهدف، أيها الشريك في القتل، إن كنت أجيراً في مؤسساته  أو مخبراً في دوائره المشبوهة، أو شريكاً في نهبه وسلبه، أو عضواً في حزبه الهلامي، أو مجنداً بالإكراه في جيشه … لم يصدف أبداً أن الضحية كانت قطة مذعورة أو كلب شارد مر بالصدفة أمام فوهة المسدس أو البندقية أو المدفعية، فالشيطان عندما يخرخ عن طوره ويبتعد عن عرشه وأوكاره لا يكتفي بإغتيال الوطن، بل يعمل كل ما في وسعه لتدميره وإبادته ومحوه عن الخارطة، ممهداً الطريق للنجاة، نجاته هو وليس أنت، فهل ستنجو معه أو منه وهذا نصف السؤال  !!

ممن أنت خائف؟ من ذاتك المهترئة والمعتقلة، أم من النظام الخائف الذي سقط وأُشبع سقوطاً، أم من هذه العصافير الآدمية التي تتساقط كما النجوم وكما المطر في حضن الوطن الطاعن بالأمل وتعدد الجنازات التي تتناقلها أصابع الضحايا الذاهبة إلى ذات المصير، لا بد أنك في حيرة مثلنا حيث لا نعلم من هو الأبقى: الحي أم الميت ! فكلاهما يدخلان في جنازة واحدة والفارق جارح وفاضح: واحد مسجى بعلم الوطن والآخر يمشي في موته وصوته وفي يده علم الوطن، لا نعرف متى يحين دوره ومن الذي يسقط ومن الذي يوارى فإلى أين ستذهب بخوفك إذا ما ذهب الوطن ؟؟ المُشيِّع والمُشَيَّع في جنازة واحدة يتناوبان الموت في وداع طائر، حائر وقصير!!

تنطلق الرصاصات في الساحات والقرى والسهول وفي كل صوب، لا نراها لكننا نشاهد آثار الدم على الطرقات، في السماء وفي ثياب الحداد وفي إنتظار آلاف الطفال لأبائهم يعودون محمولين على الأكتاف وعلى هتافات غاضبة، والبعض يختفي إلى آجل غير مسمى ولا معروف، شهداء حرية ووطن، لا أسماء لهم بل مجرد أرقام تكفي لصياغة خبر ينقصه الضمير، يرسل عبر الأثير ليتسلى به هواة الصيد والمذابح، قبل ذهابهم إلى مدن  وقرى أخرى .

أيها الخائف الرعديد الصغير الجبان، آن لك أن تعترف بهوية الضحايا على الأقل…  أيها الدنئ السفيه الصفِّيق، آن لك أن تتوقف عن التصفيق للقاتل…. آن لك أن تتوقف عن التهريج وإصطناع إبتسامات الهبل… آن لك أن تصغي لدم أبناء وبنات جلدتك ووطنك ولأجسادهم المغدورة في الشوارع وفي أماكن لا ندري عنها شئ… أيها الخائف آن لك أن تتجاوز وضاعتك، آن لك أن تعترف لذاتك ولأطفالك ولأهلك: فإذا كنت تصدق النظام فأنت تُكذب الضحية وإذا كنت تصدق الضحية فأنت بصمتك تبرئ النظام وما أنت إلا بقاتل، أو أن تتوقف عن الصمت وتعترف .

سقط النظام منذ أن سقطت الضحية الأولى على أرض الوطن وليس بعد أن أفرط في القتل والتوحش وتكرار المجزرة تلو المجزرة … منذ تلك الضحية وبدء الهلاك كان يجب أن تُنكَّس الأعلام ويُكنس النظام وقبل أن يزدري ويحتقر دماء الأبرياء، أنبياء الوطن وأنبل البشر.

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى