صفحات العالم

سقط جدار الخوف

 


الياس خوري

منذ ثلاثة أشهر والعالم العربي من مغربه الى مشرقه يعيش عصفاً ثورياً لا سابق له. فجأة بدأت الأنظمة الديكتاتورية تتهاوى. انطلقت صيحة الحرية من جسد يحترق في سيدي بو زيد في تونس، لتشتعل القارة العربية بأسرها. سقط بن علي وتهاوى مبارك، القذافي يترنّح، وعلي عبد الله الصالح يبحث عن مخرج. البحرين اشتعلت ودخلتها جيوش القمع السعودية، وفي الجزائر والمغرب بدأت نار التغيير. الملكيات مذعورة، من عماّن التي تتظاهر، الى الرياض التي يعتقد مليكها انه يستطيع بالرشوة ان يعبر كأس التغيير!

فجأة تهاوى نظام عربي كامل أخذ العرب الى هاوية الخمول والضِعة، واسس لتقاليد قمعية متمادية، من قوانين الطوارىء الى خطف الناس واعتقالهم، ومن كمّ الأفواه وابادة الحريات العامة، الى الغاء النقابات والأحزاب السياسية، بحيث صارت المجتمعات العربية مسوّرة بالصمت، وفقد الناس كراماتهم الفردية والجماعية.

النظام السوري لا يشذّ عن هذه القاعدة العامة، بل ربما كان الأكثر فتكاً وترويعاً، يلعب مع شعبه لعبة الخوف والتخويف، ويحتمي من التغيير عبر تحالفات معقّدة تبدأ بدعم المقاومة وتنتهي بالالتزام الدقيق بالاتفاقات مع اسرائيل. بحيث يخال المراقب ان لا وجود لأرض سورية محتلة، وان النظام السوري لا همّ له سوى دعم تحرير لبنان وفلسطين!

لعبة بالغة التعقيد تبني اسواراً من الحمايات من حول النظام، من التحالف السوري- السعودي الى التحالف السوري- الايراني، وصولا الى علاقة ممتازة مع تركيا.

تركيبة معقّدة، اسست لنظام راسخ استطاع تمرير قطوع التوريث بأقل الخسائر الممكنة، ونجح في الامساك دائماً بالعصا الاقليمية من وسطها.

لكن ما فات العائلة الحاكمة السورية تبصّره هو ان الزمن انقلب. الزمن الذي كان فيه النظام يجتاح حماة، بالقوات الخاصة التي صنعت واحدة من اكثر مذابح زمننا هولاً، بينما يتابع خطابه القومي الذي صعد على الدم الفلسطيني واللبناني المسفوك في تل الزعتر، هذا الزمن انطوى الى الأبد.

ما لم تستوعبه الآلة الأمنية الحاكمة ان زمن الخوف قد ولّى، لقد سقط جدار الصمت عندما اطلق المناضل الكبير رياض الترك صيحته من اعماق سجنه المديد، معلناً سقوط مملكة الخوف. الشعب السوري يريد الحرية والكرامة والعدالة، وضاق ذرعا بالمفسدين والفاسدين، وزمن هيمنة الرعب يجب ان يزول.

غريب امر حكّام هذه اللحظة العربية، يقلّدون بعضهم البعض، يوزعون المال ويعدون بالاصلاح، معتقدين ان الشعب يصدّقهم، وانهم يستطيعون بَلْف الناس مرة جديدة.

عندما وقف بن علي في الليلة الأخيرة من حكمه، ليخاطب التونسيين بأنه فهمهم، فهمنا ان الرجل لم يفهم شيئاً. وهذا ما فعله حسني مبارك. اما القذافي فانه لم يكن يريد ان يفهم، ولم يدعِّ انه فهم. بدأ المجزرة منذ اليوم الأول، لأنه تعوّد على احتقار الشعب.

لا ادري ماذا ستكون خيارات الرئيس السوري بشّار الأسد، هل سيفهم على طريقة بن علي، ام سيطلق النار على طريقة السفّاح الليبي.

اغلب الظن انه سيلجأ الى التكتيكين معاً، وهذا ما شهدته درعا، التي كان لها شرف اطلاق شرارة الثورة السورية. اطلاق نار وقتل من جهة ووعود من جهة ثانية.

لقد اثبت الشعب السوري انه شعب حكيم، فالشعب يعرف فداحة الجريمة التي قد تكون في انتظاره، لذا افسح للنظام فترة ثلاثة اشهر كي يتعظ بما يجري من ثورات في العالم العربي، ويبدأ في فك القيود عن الشعب. لكن احدى خصائص الأنظمة الديكتاتورية انها تصاب بالعماء والطرش حين يتعلق الأمر بها. فالديكتاتور ليس محاطاً سوى بالمرايا التي تعكس صورته، ولا يستمع الا الى اصوات المتزلفين والمستفيدين. لذا يفقد قدرته على فهم رياح الزمن.

ميزة الديكتاتوريات انها لا تعترف بوجود الزمن. كلنا يذكر تلك اليافطات التي كانت ترتفع كي تقول ‘رئيسنا الى الأبد حافظ الأسد’. تكشف هذه العبارة معنى العلاقة بالزمن، ولا يمكن فهمها الا في سياق رفض الاعتراف بالتاريخ، والدخول في ابدية الجمود. لكن ما استعصى على ادراكي هو تلك اليافطة التي ارتفعت على احد مداخل طرابلس في الشمال اللبناني والتي تقول ‘الى الأبد والى ما بعد الأبد’، وكان ذلك بالطبع زمن الوصاية السورية على لبنان. اعترف انني لحظة قراءتي لهذه اليافطة شعرت بأنني لم اعد أفهم، وبأن الهذيان استولى على الكلام.

فالاستبداد لا يكتفي بعدم الاعتراف بوجود الزمن، بل يحتقره ويدّعي انه يستطيع البقاء الى ما بعده!

الشعب السوري الذي جعل من عاصمته دمشق-الشام، قلب العرب ونبضهم، صبر واحتمل كثيراً. وكان صبره جزءاً من زمن الركود الذي عاشه العالم العربي خلال العقود الأربعة الماضية.

لكن حين ينتفض العرب في كل مكان، وحين تؤسس مصر ميدان تحريرها، وحين تهب رياح الحرية، فلا يعقل ان تبقى سورية مملكة الصمت والحزب الواحد وقانون الطوارىء وسحق الحريات العامة والخاصة.

لذا ‘طلعت من صوب سورية الجنوب’، كما غنت فيروز يوماً. من الجنوب، من حوران، من خصوبة الأرض بالقمح والحرية، من بلاد الثورة السورية الكبرى، من درعا، بدأت رحلة الشعب السوري الى الحرية.

لا ليست فتنة طائفية ولن تكون، مثلما ادّعت السيدة بثينة شعبان، فإذا كانت الاشارة الى الطائفية على لسان المستشارة هي شكل من اشكال التهديد بها، فان الشعب السوري، يعرف من تجربته ان اللعبة الطائفية هي وسيلة النظام من اجل سحق جميع الطوائف، وان الكلام عن هيمنة العلويين ليس سوى وسيلة لتغطية حكم المافيا العائلية. الشعب السوري بمختلف اطيافه، من عرب وكرد، وبمختلف طوائفه من مسلمين ومسيحيين وعلويين ودروز هو الضحية، ولعبة التحريض الطائفي قد تطيل في عمر النظام قليلاً لكنها لا تستطيع ان تنقذه من عصف الحرية الذي يجتاح سورية من جنوبها الى شمالها.

في دمشق، سوف يزهر ياسمين ربيع العرب، وعلى ذرى قاسيون سوف يستعيد الشعب السوري حريته.

قلب العروبة النابض هي اليوم في قلوب كل العرب. فإذا كانت مصر هي مركز المشرق العربي، فان الشام هي روحه.

وحين تنتفض الروح تبدأ الحرية.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى