صفحات سوريةلؤي حسين

سقوط مقولة المخلّص في الانتفاضة السورية/ لؤي حسين

 

 

مع غياب الثقافة السياسية في سورية، وانعدام خبرة العمل السياسي عند السوريين، ومع حدة المواجهة الدموية مع النظام، طغى على الصراع السياسي، الذي نهض بقوة في آذار (مارس) 2011، ثقافة اعتمدتها «قيادات» المعارضة نابعة من ذهنية شعبية هي أقرب للتفكير الديني المبسّط، تعتمد معيار المقدَّس والمدنَّس في تعاملها مع مجريات الواقع، وترجو مجيء مخلّص قادر على الانتصار على النظام/الشيطان وهزمه بحركة واحدة وبلحظة خاطفة، من دون أن تُحسب له أية آثام، ومن دون أن يَترك أي تبعات تنجم عن هذا الخلاص النظيف.

لم تكن مقولة دنس النظام نابعة من الشارع الاحتجاجي، إذ أن قيادات هذا الشارع كانت تقبل التواصل والتفاوض مع النظام بدءاً من المجموعات الأمنية في الأحياء والبلدات وانتهاء برئيس النظام. ومع أن أغلب هذه المحاولات فشل في تحصيل بعض المكاسب، فإنها لم تعتبر الاقتراب من النظام والتواصل معه فعلاً دَنساً. لكن أصوات معارض الخارج، الذين أخذت أصواتهم بالعلو من خلال المنابر الإعلامية التي فتحت أبوابها لهم، هي التي دنّست فكرة التواصل من النظام، فتسببت بالجفلة والخوف لمن هم داخل البلاد من أن يتلوثوا بدنسه النظام. وصارت الطهرانية، جراء ذلك، منصة المباهاة الرئيسية، بحيث أصبحت تحسب النشاطات من حيث مدى طهرانيتها وليس من حيث جدواها وعائديتها على السوريين.

هذا الأمر شكل ضغطاً هائلاً على شخصيات المعارضة والناشطين الشباب الذين كانوا في ذاك الحين ما زالوا موجودين داخل البلاد، فعزفوا عن الاقتراب من فكرة الحوار المسؤول مع النظام من خلال التأسيس لمساحة حوار يساهم في التخفيف من تسارع الانهيار بالشكل الذي حصل (وكنت أنا شخصياً بين هؤلاء. فعلى رغم أني كنت مدركاً لما ستؤول إليه أوضاع البلاد ما لم نعتمد حواراً نصنّعه نحن، رفضت قبول دعوات الحوار الهزيلة التي تقدم بها النظام).

تدنيس الخصم هو أسلوب العاجز في خلق ذريعة لعدم الدخول في معركة حقيقية، وتبرير له للابتعاد عن الميادين، ليكتفي بعد إثبات دنس الخصم بشتمه ولعنه كما الاكتفاء بالاستعواذ بالشيطان الرجيم. فتصبح جميع مواقفه اللاحقة مجرد أدوات تعويض لعجزه، من دون أن يكون لها أي أثر في تغيير الواقع أو إغنائه.

كان لا بد لهذا النوع من الذهنية التدنيسية، المكتفية بنهج الندب والشكوى، أن تكتمل في صيغة ذهنية خلاصية، تبحث عن مخلّص لتستجديه القيام بمهام أصحابها. ولم يكن من الصعب تحديد هذا المخلص، إذ كانت التجربة الليبية ماثلة أمام العين حينها. إنه الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو. فهي، وفق رؤية هؤلاء الخلاصيين، التي خلّصت الليبيين من معمر القذافي ومن أبنائه ومقاتليه من دون أي إثم. فبدأ العمل سريعاً على استنساخ النموذج الليبي، فكان تشكيل المجلس الوطني واعتماد عَلم غير العَلم الرسمي المعتمد، والحديث عن مناطق شبيهة ببنغازي الليبية لتكون منطلقاً لثورة مسلحة تفتح لها قوات الناتو الطريق إلى العاصمة دمشق وإلى القصر الجمهوري، إضافة إلى وضع الخطط الذهانية لعملية حظر طيران حتى قبل أن يستخدم النظام سلاح الطيران في مواجهة مسلحي المعارضة.

لم يطل الأمر حتى أدرك الخلاصيون أن المخلّص يفتقد الحوافز والمصالح ليقوم بالدور الخلاصي، وأن حافزه لذلك هو أن يرتكب النظام مجزرة مروّعة بحق المدنيين، فباشروا العمل لتحقيق ذلك. وقدّروا أن مصالحه هي بكل بساطة مجرد التقريع بإيران وروسيا والصين وحزب الله، ومهادنة إسرائيل، وأن السوريين لن ينسوا فضل من خلّصهم من الطاغية.

لا نحتاج لجرد جميع نشاطات وممارسات المعارضة السياسية، منذ تشكيل المجلس الوطني السوري إلى الآن، لنجد أنها لم تكن أبداً في مواجهة النظام إلا في كونها مساعي لاستحضار المخلّص، بما في ذلك الحديث عن قرب الانتصار العسكري على النظام، إذ يعرف جميع المعنيين أنها لم تكن سوى ادعاءات إعلامية هدفها تهوين الأمر على المخلّص وإظهار أن تدخله سيكون بسيطاً وغير مكلف.

فالمعارضة لم تشتغل إطلاقاً على تقويض النظام، كأن تسعى لاجتذاب مؤيديه، ولم تقم بالضغط عليه ليقلل من عنفه وقمعه، بل على العكس سعت لأن يزيد من ذلك أملاً بتحفيز المخلّص.

لم يسقط النظام، ولم يأت المخلّص. ولم نَجنِ، بعد ما يزيد على ثلاث سنوات من الصراع، غير العديد من المجموعات المسلحة، بعضها يضاهي النظام عنفاً وقمعاً وبعضها يفوقه في ذلك، وبقايا نظام آخذ في التحول السريع لأن يكون مجرد ميليشيا مسلحة لا أكثر. وهذا ما ظهر جلياً في خطاب القسم للرئيس بشار الأسد.

بعد هذه السنوات من الصراع نجحت الذهنية الخلاصية في ألا يكون لدينا حراك سياسي، ولا قيادات وزعامات وطنية. لأن الخلاصية تقوم وتتأسس على التشكيك بقدرات الذات الفاعلة، وتقيلها لتستعيض عنها بذات عاجزة متسولة الخلاص من طرف خارج الذات. إنها تدفع إلى نهج تسولي يحوّل الحراك البطولي التاريخي، الذي خرج بجبهات مرفوعة في تظاهرات الحرية التي عمّت جميع المناطق السورية، إلى مجرد ضحية يُجال بها على عواصم الدنيا لتسوّل العطف والتعيّش، محمولة على خطاب كخطاب الجَدّات العاجزات اللواتي يكتفين باللطم والنواح، ولا يهتممن بصناعة التاريخ أو بصنّاعه.

ليس لدى النهج الخلاصي أي أداة نضال ثورية تمكّننا من مواجهة التحديات الجسام التي تغلق الآن آفاق المستقبل السوري بشكل شبه نهائي. وعلينا، كيما نتمكن من تقويض النظام الاستبدادي ومواجهة المجموعات المتطرفة التفتيتية، والحفاظ على وحدة السوريين ووحدة كيانهم السياسي، أن نتخلى عن الخلاصيين وعن نهجهم وذهنيتهم، معتمدين في ذلك كله على القوى الذاتية والأهلية، في محاولة، ولو كانت متأخرة، لابتداع نهج سياسي ثوري يمكّننا من معرفة أفضل السبل لتحقيق هدفنا في بناء وطن حديث لجميع السوريين من دون استثناء.

* رئيس «تيار بناء الدولة السورية»

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى