صفحات الثقافةعلي جازو

سكاكين ومسدّسات عبد الكريم مجدل البيك

 

علي جازو

 حمل عبد الكريم مجدل البيك، مسدّسات وسكاكين كثيرة إلى لوحاته الأخيرة. مع آلات القتل والذعر، حمل قمصاناً مقطعة وبناطيل ممزقة ويقايا كنزات داخلية. دمجها وجمعها في خيمة عسكرية هي مادة لوحته وبيتها. حمل الأشياء كأشياء ألغت أصحابها أو بقيت إثرهم، راكمها فوق بعضها البعض وخالطها طبقات تلج طبقات. لا نعرف إن كنا داخل خيمة أو نلمس قميصا غاب صاحبه، أو نمسك ثنية بنطال مدماة. لا نلبث أن نجد وجها غائرا وسط هذا الطحن العاشق القاسي، ليس وجهاً كاملاً ولا وجه شخص بذاته. إنه وجه منضعظ محشور غائر بعين شبه ممحوة، وفم صغير لا نقوى على رؤيته، تكاد تنادي أو تتوسل كل شيء، أي شيء.

 مثل هكذا نظرة لا يمكن أن ترى أو تستعاد إلى داخل حلم يستعيد الذاكرة كما هي في طورها المختلط، ويخلخل هناءة العين التي تكاد الصورة المتداولة أن تحيلها إلى محض زجاج ينقل المشاهد بلا قلب وبلا عاطفة.

رغم صعوبة المهمة، أمام متطلبات الفن والضمير في وقت واحد، وهول العنف وزخم الأحداث الأليمة، لم يسرف عبد الكريم مجدل البيك في استعمال الألوان. هنا عادت الألوان إلى بئر الخيال الأفقر والأقل والأكفأ، عادت بيضاء سوداء في معظم لوحاته، بمقاسات ضخمة أقرب إلى جدرايات، وتفاصيل زاخرة ومتّقدة، بمتانة لا تفتقر إلى الدقة المرهفة والتقشف الزاهد، تشير إلى دأب وعمل طويلين.

لم يجد سوى المسدسات حوله فحملها كما هي ووزّعها وثبّتها في كل مكان على خلفية من قماشة سميكة كانت خيمة عسكرية. مسدسات تتتابع وتتوالى وتحيط اللوحة من كل جهة، حتى لتبدو في مطاردة مغلقة وسباق حبيس. المتن واضح وبلا لبس. بهذا وحده يمكن للبيت السوري المدمّر أن يرى ويعاين. خيمة عسكرية ومسدّسات وسكاكين، مفردات القسوة والعنف والوحشة كلها سوية، حيث لا مكان لشيء آخر. لا نجد أشخاصاً مذعورين ولا معارك طاحنة. لا نجد بيوتاً مدمرة ولا شوارع لم يعد يسير فيها احد. ما من وجوه أو ملامح لوجوه. لا نعثر على دماء أو ألوان حمراء إلا فيما ندر، لكن أدوات العنف تحل محلها، تلغيها وتأخذها إلى سواد كتيم. امتصّ السوادُ الرثائيّ الصرخة التي سقطت ولم تزل مدوّمة وهائمة، وحلّ السلاح محل الكائن المعزول والمعتقل والنازح والمفقود والغائب.

يُلغَى الإنساني بقوة الأداة العنفية، حتى تغدو الأخيرة هي الكائن. يتحول الإنسان إلى شيء، ومن تحوله إلى شيء يقسو ويعاني ويتضوّر ألماً وشقاء. لمعان بارد قوي ومخيف، سواد صارخ نهم، ملطخ ببياض عفيف، لكن باق وآت في لحظة ما. اللوحة شهادة هنا، تذكير بالعبء، لكنها أيضاً ممرّ قسري، رحب وشجاع، إلى جهة مشتّتة ومجزأة، غير أنها ملموسة في بقع بيضاء كأنها بقايا استغاثات وجوه لامرئية وشهقات مجهولين أبرياء. كل شيء ممسوك هنا، في متانة قابضة واحتضان أليم.

 إنها العين وقد نفذت من الظلمة بأدواتها ذاتها، ومن برد الفقدان المرير عبر الالتصاق به وتثبيت الحس عليه، كما لو أن الأخير هو القدرة الأضأل والأهم على التذكير بأهوال حطّمت التوق الإنساني إلى حياة لا تكون فيها الذات محرقة ولا أداة داخل محرقة. لا يتذكر الفنان أحداً، لأنه يريد أن يحمل ما تركه الجميع ويحثّهم على التذكر الصعب. لوحات عبد الكريم سجل وفيّ، وإن بدا مجرداً من التشخيص السهل، لكل منسيَ وكل مفقود وكل ضحية. نشفى بالمصائب! مع الفن، لأجل حرية الإنسان ولأجل الإبداع، يبدو الأمر كذلك.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى