صفحات الرأي

سلافوي جيجك… النيوماركسي “الأكثر خطراً في الغرب”/ محمد حجيري

 

 

شغل الفيلسوف والمحلل النفسي السلوفيني، سلافوي جيجك، مكانةً عالية في الثقافة الغربية، فقد أصدر حتى الآن أكثر من سبعين كتاباً متنوعاً، ما بين الفلسفة والتحليل النفسي، ذي الطابع اللاكاني والنيوماركسي. رغم تأثيره الواسع، من الصعب أن نحدد بدقة موقفه الفلسفي والسياسي. وما يميزه هو حضوره الفكري والإعلامي الفاعل، الذي يتوزّع على المحاضرات الجامعية والندوات الفكرية واليوتيوب. يكتب حول العديد من المواضيع مثل: الرأسمالية، الأيديولوجيا، الأصولية، العنصرية، التسامح، التعددية الثقافية، حقوق الإنسان، البيئة، العولمة، حرب العراق، الثورة والثورات العربية، الطوباوية، الشمولية، ما بعد الحداثة، ثقافة البوب والأوبرا والسينما، اللاهوت السياسي والدين. جيجك الذي يوصف بأنّه «الفيلسوف المتعولم» و»إلفيس النظرية الثقافية» (في إشارة إلى إلفيس بريسلي)، و»الفيلسوف الأكثر خطراً في الغرب» بحسب إحدى الصحف، وعدّه الناقد البريطاني تيري إيغلتون ألمعَ شارح للتحليل النفسي، وللنظرية الثقافية عموماً، وقال عنه: «إنه ممتع في القراءة، لكنه أيضاً مفكّر نشط بشكل استثنائي، نشأ في التقاليد العالية للفلسفة الأوروبية». ربما لم يكن معروفاً في الثقافة العربية قبل 2011، إلا في دوائر ضيقة، غير أن اهتمامه بثورات «الربيع العربي» وكتابته لمقالات عدة في صحف عالمية حول الثورة التونسية والمصرية والسورية، بالإضافة إلى كتاباته القديمة حول العراق، كل ذلك جعل القرّاء والكتّاب العرب يلتفتون إلى هذا الفيلسوف المثير للجدل، ويترجمون بعض كتبه ومقالاته في بعض الدوريات والمواقع الالكترونية.

لم يتحوّل جيجك «يسارياً» شعبوياً، ولم يتهافت «اليسار العربي» لحمل كتبه وكأنه «نبي العصر الحديث» أو «الموضة الجديد» أو سارتر جديد، مع أن بعضهم يعتبره الفيلسوف الأكثر شهرة الذي أنجبته أوروبا الشرقية بعد الماركسي المجري جورج لوكاش. وجيجك نفسه يقول: «يعتبرني كثيرون ماركسياً مجنوناً ينتظر نهاية العالم. قد أكون غريب الأطوار، إلا أني لست مجنوناً. ما زلت متمسكاً بالشيوعية في ظل غياب ما هو أفضل، وبسبب يأسي من الأوضاع في أوروبا»، مع التذكير بأن بعض إعلام «الممانعة» المكتوب والالكتروني، «العروبي» والخميني، حاول توظيف بعض مقالات جيجك في ما يخص السياسة الأميركية ووثائق الأمن القومي الأميركي والثورة السورية. ربما لو قرأوا تشبيهه الخمينية بالداعشية لبدلوا رأيهم، فهو يسرد في مقابلة جديدة له: «قال زعيم الثورة الإيرانية الخميني ذات مرة: لا نخشى نحن المسلمين الأسلحة الغربية أو الإمبريالية الاقتصادية، بل نخاف الفساد الأخلاقي في الغرب. ويتجلّى الشكل المتطرّف من هذه المقاومة من خلال «داعش» أو حتى «بوكو حرام». يا لها من ظاهرة غريبة! حركة اجتماعية وسياسية هدفها الرئيس إبقاء المرأة أمية ومكتفية بمكانتها». ولم ينج جيجك من هجوم بعض المعارضين السوريين، فبعد مقال له بعنوان «سوريا: صراع زائف»(جريدة الغارديان) أثار جدلاً واسعاً ونقداً حاداً. وقد تفاوت الهجوم بين وضع جيجك في خانة «اليسار الغربيّ المعادي للثورة السورية»، أو اتهامه بكونه «جاهلاً بظروف الثورة وتطوراتها«، و»لا يعرف شيئاً عن سوريا»… كانت الجملة التي أثارت حفيظة معظم المعارضة السورية، هي: «لا تحتاج إلى أن تكون خبير طقس لتعرف اتجاه الرياح. واتجاه الرياح في سوريا واضح: أفغانستان»، واللافت أن بعض الكتاب الذين تهافتوا للانقضاض على جيجك واتهامه بالجهل وعدم المعرفة سرعان ما كتبوا استنتاجاته ذاتها بعد سيطرة النصرة وداعش على الكثير من نواحي سوريا. أيضاً جيجك لم ينج من نقد نعوم تشومسكي، إذ انتقد هذا الأخير أن جيجك (مع المنظّرَيْن الفرنسيَيْن جاك لاكان وجاك دريدا)، بسبب سماه «حجبهم أفكاراً تافهة خلف قناع من لغة متضخمة ومشوشة لتجعلهم يبدون عميقين»…

لم يُترجَم لجيجك إلى العربية سوى أربعة كتب حتى الآن، وهي: «مرحبا في صحراء الواقع» عن دار العين(2011)، و»سنة الأحلام الخطيرة» و»الفلسفة في الحاضر» بالاشتراك مع آلان باديو، عن دار التنوير(2013)، وكتاب «بداية كمأساة وأخرى كمهزلة» عن دار طوى(2015). هذا إلى جانب بعض المقالات التي ربما تعطي انطباعاً عن هذا الفيلسوف وأحواله وتوجهاته وتشعباته الفكرية والنظرية بين الحدثية والفلسفية والاقتصادية والسينمائية والثورية والإعلامية… فهو في كتابه «بداية المأساة» ينطلق من الأزمة الحالية كبداية، ينتقل تدريجياً إلى «مسائل متعلقة» عن طريق كشف ظروفها وعلاقاتها. يقدم الفصل الأول تحليلاً لمأزقنا، بتلخيص الجوهر اليوتوبي للأيديولوجيا الرأسمالية التي حددت كلاً من الأزمة نفسها وتصوراتنا لردود الأفعال عليها. يسعى الفصل الثاني لتحديد سمات حالتنا التي تفتح الفضاء على صيغ جديدة من التطبيقات العملية الشيوعية. لا يقدم الكتاب تحليلات حيادية لكن متورطة و»منحازة» جداً-لأن الحقيقة منحازة، لا يسهل الوصول إليها إلا عندما يأخذ المرء جانباً، وهي لا تقل عالمية لهذا السبب. الجانب المتخذ هنا هو، بالطبع، جانب الشيوعية. وينقد جيجك الأيديولوجيا الليبرالية، التي تعمل على تعطيل الإمكانيات الثورية في العالم الذي نعيش. يعتبر جيجك في الكتاب أن المستقبل سيكون هيغلياً، وأكثر راديكالية مما يظن فوكوياما، ويسأل: لكن ما حظوظ الهيغلية اليسارية اليوم؟ هل يمكننا أن نعتمد على انفجارات طوباوية لحظية مثل كومونة باريس؟ هل الشيوعية إذاً مدانة بإبقاء الفكر الطوباوي لعالم ممكن آخر، الفكرة التي تدرك نهايتها بالضرورة في فشل أو إرهاب ذاتي التدمير؟ هل علينا أن نبقى مؤمنين بالمشروع البنياميني(نسبة إلى فالتر بنيامين) عن الثورة النهائية التي سوف تعود من خلال تكرار هزائم الماضي؟ أسئلة كثيرة في كتاب زاخر بالمعلومات والأفكار المدهشة، ولعل أبرز فكرة تعكس واقعنا تلك المقولة التي ينقلها جيجك عن فالتر بنيامين: «كل صعود للفاشية يشهد على ثورة فاشلة».

عبارة بنيامين الخارقة ستكون حاضرة أيضاً في كتاب «سنة الأحلام الخطيرة» الذي يقدم توصيفه لعام 2011، يعاين الثورات التي اندلعت في بقاع متعددة من العالم، وبشكل رئيس «الربيع العربي» و»وول ستريت»، لكن وقبل الوصول إلى تلك الحركات التي يقاربها، فإنه أولاً سيمضي في معاينة المتغير والمتبدل في الرأسمالية المعاصرة، واستعان مؤلف الكتاب بالعديد من الوسائل لشرح وتحليل المشكلات المطروحة في كتابه، حيث اعتمد على النظريات الفلسفية والسياسية والاقتصادية إلى جانب تجليات الثقافة الشعبية كأفلام هوليوود والمسلسلات الأميركية، بجانب الأدب والشعر العالمي. وفي سياق الماركسية، لا يخلو من مناقشة لآراء هيغل وماركس وكانط ودريدا وجيل دولوز وكافكا، وإحالات إلى الموسيقى والأوبرا، كل هذا جعل الناقد الأميركي فريديك جيمسون يرى عمل جيجك «عروضاً للمنوعات النظرية».

جيجك مشغول بأمرين أساسيين يمكن لكل الكتاب أن يتأسس عليها ألا وهما الكيفية التي ستترجم فيها اللحظة التحررية إلى نظام اجتماعي جديد. وبالانتقال إلى «الربيع العربي» فهو سيبدأ من طبق خزفي في متحف الفن الإسلامي في الدوحة، وصولاً إلى استعراضه للراديكالية الثورية التي يحتكم إليها الإسلام، مستعرضاً تاريخ القرامطة وثورة الزنج، ويرى أن «الانتفاضات الشعبية في الدول العربية، وكما هو واضح. تنتهي دائماً بانتصار الإسلام المسلّح». أما سوريا فيصف وضعها بالغموض قائلاً: «على الرغم من أن نظام الأسد لا يستحق التعاطف، فإن أوراق الاعتماد السياسية – الأيديولوجية لمعارضيه بعيدة الوضوح».

في كتابه «مرحباً بصحراء الواقع» يقوم بجولات واسعة في الأدب والسينما والسياسة والفلسفة والاجتماع والثقافة الشعبية عبر مقالات الكتاب، ليكشف الجانب اللاواعي لعدد من المفاهيم والشعارات التي تشكّل أطر التفكير في عالم اليوم. أما كتاب «الفلسفة في الحاضر» فيتخذ وضعية من يضبط كلاً من الفيلسوفين آلان باديو وسلافوي جيجك متلبسين في نقاش فلسفي جرى بينهما في فينا 2004، كما يورد الكتاب الذي حرره بيتر إنغلمان، بحيث يسعيان وكل على طريقته الإجابة عن سؤال ما هي الفلسفة في الحاضر؟ باديو يقول لنا من البداية إنه وجيجك متفقان في العديد من الأشياء «لذا لا نستطيع أن نعدكم بمعركة دموية، ولكننا سنرى ما بوسعنا فعله»، بينما سيعتبر جيجك أن «الفلسفة ليست حواراً»، وبحسب قوله: «أرسطو لم يفهم أفلاطون بشكل صحيح، وهيغل – الذي لعله كان سعيداً في ذلك – لم يفهم كانط بالطبع، وهايدغر لم يفهم أحداً على الإطلاق..«. ويأتي الفصل الثاني الذي كتبه جيجك «الفلسفة ليست حواراً»، على اختلاف مع باديو بداية من خلال تأكيده على «تغيير المفاهيم الجوهرية للجدال» بعد أن يمر على مفهوم جيل دولوز «الأطروحة الجامعة الفارقة» التي يتوكأ عليها باديو في مقاربة مشكلات مروعة تسببها مثلاً الحرب على الإرهاب، بحيث تكون الأطروحة «الجامعة الفارقة» متمثلة بتفضيل الأمان على الإرهاب، أو الرد على التطرف بانفتاح ليبرالي، أو ترسيخ الهوية الغربية بشكل أقوى، والتي يعتبرها جيجك جميعاً «بدائل زائفة»، وليست بحسب رأيه «خياراً راديكالياً» كما يسميها باديو.

من يقرأ لسلافوي جيجك ينتابه إحساس بأنه يتعامل مع روح لا تتوقف عن الدهشة والادهاش، يتفوه بأكثر العبارات جدلاً، سعياً خلف أثر فضائحي. من عباراته الملفتة على سبيل المثال «هتلر لم يكن عنيفاً بشكل كاف»، «أنا لست إنساناً، أنا وحش». هناك من يعتبره مجادلاً سخيفاً، وهناك من يرهبه بسبب نزعاته النيوماركسية التوتاليتارية. لكن منذ الأزمة المالية العالمية، تم اعتباره خبيراً في الركود الاقتصادي. معجبوه يتكاثرون ويعطونه صفة المثقف العبقري. ومع أن جيجك ملحد من الطبقة المتوسطة، ونشر مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» حيث يقول إن الإلحاد إرث عظيم لأوروبا، وأعرب عن تأييده لنشر الإلحاد في القارة الأوروبية، إلا أنه لا ينفك يؤكد في كتاباته على مسألة الروح الثورية والروح الملهمة، ويعتبر نفسه مديناً للفلسفة الألمانية التي يقرأ فيها أنها الفلسفة الوحيدة القادرة على تقديم بديل منافس لليبرالية الرأسمالية.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى