صفحات الثقافة

سلامات إلى أصدقاء غابوا عن الإتصال

 

 


يوسف بزّي

هناك في اللاذقية كاتب “بشر وتواريخ وأمكنة” منذر مصري، المصاب بحب الموسيقى، والذي يخالفني الرأي في الفن التشكيلي وفي كرة القدم. انه الشاعر الذي يشاغب في المدرجات ولا يأتي إلى بيروت إنصياعاً لأوامر رسمية.

هناك في اللاذقية الرجل القلق محمد دريوس الذي رصد “ثلماً في تفاحة طافية” وكتب: “حشد. لغط ثقيل وروائح تتشاجر، لما تقدمت، شجار وسكاكين تلمع بغتة، بانتقاضة يد، بجرح بليغ كالزهرة…” أين هو الآن، أين يذهب؟

وما بين اللاذقية ودمشق، ذهاباً وإياباًَ، صاحب الكاميرا المؤجلة والحكاية الموقوفة أسامة محمد، الذي يداعب مخيلتنا مع كل جملة ساخرة يرميها، والذي يظهر علينا كملاكم طيب ويتحدث بوقار شيخ، ماذا يفعل في نهاراته المتكررة، وأمسياته المرصّعة بـ”نجوم النهار”؟ ما الذي تراه عيناه الآن؟ ما المشقات التي يكابدها في تجواله اليومي… أي كلمات يضطر لابتلاعها وأي صور يحفظها في رأسه؟

في حلب قالوا إن عمر كوش ليس في منزله، لقد أخذوه هو ايضاً. رجل القراءة والكتب والرقابة الصارمة على كل كلمة يقولها. رجل الحذر الأبدي والتهذيب الفائق، والذي لا يحمل في جيبه سوى “أفكار” وشغف التبصر بالصفحات.

في حلب، ما زال عارف حمزة عند نافذة طفولته ينثر الشعر كطائرة ورقية في السماء القديمة للمدينة الحجرية. يلملم القصص العابرة ويطرّزها بالخيط والإبرة. عارف الودود لا يرسل “إيميل” ولا خبراً.

رستم محمود هناك في الشرق، عند حافة الصحراء، وما بين السهول التي اجتاحها الجفاف. بصحبة الكرد والشبان المتحمسين. رستم اللجوج الكثير الأسئلة الذي يوزع صداقته مجاناً على كل من يصافحه، ولا يتوقف عن معاتبتي عند كل لقاء، مستهزئاً ببيروت، ومجنوناً بها. رستم “سارق” المدن: اسطنبول في قلبه، دمشق بين يديه، بيروت في عقله، القاهرة امام خطواته وقفزاته المفاجئة.

ويظل هناك ما بين القامشلي والحسكة ودير الزور… مدركاً أن جبال الأجداد قريبة وأن الحدود مليئة بالألغام.

ياسين الحاج صالح الحقيقي جداً. هو الآن في “العالم الافتراضي” وجود شاسع على الفيسبوك. قوة هائلة بأقل عدد من الكلمات. حياة مرحة في قلب الظلام. هل هو في دمشق، في الشوارع الظليلة الهادئة، في المقاهي الدافئة بعبق السجائر، في شقة آمنة يطبخ فكرة على الطاولة ويقلي بيضاًَ في المطبخ؟ هل يخرج إلى شرفة؟ هل هو راكض الآن بين الزواريب كرجل حر وراءه سجانون؟ آخر صرخة له على الفيسبوك: “اعتقال منهل باريش من سراقب صباح اليوم، أبوه محمد باريش نزيل سجن عدرا منذ عام”.

حازم نهار، الذي قضيت أشهراً معتقداً أنه اسم مستعار، ها هو الآن في الزنزانة. لم التقه يوماً، ومع ذلك لم تنقطع الصلة به يوماً. كان مليئاً بالحرية في كل عبارة كتبها، وفي كل الصمت الذي اختاره منذ سنوات عدة. عاش الحرية بصمت، وذهب إلى الزنزانة بصمت.

في دمشق حازم العظمة، الذي لا تتركه الحيرة لا في السياسة ولا في الشعر. لا يترك يقينه بدمشق العتيقة، لا يترك جنونه الصحراوي. الطبيب الذي يعمل مبضعه باللغة، الجوّال بسيارة لا أحد يفهم كيف تسير. هل هو رابض الآن في منزله الخرافي حيث يرسل إلينا قصيدة “تواهي سعدي يوسف” مفتكراً رامبو الرائي الهابط من جبل عدن، محاولاً نسيان المأساة التي تحيق بريف مدينته وضواحيها.

رزان زيتونة. يا لهذا الإسم الأليف الرقيق. لا أعرف وجهها. يخطر ببالي انها تشبه رسم “ماريان” (تلك المرأة التي ترفع راية الثورة الفرنسية بكتفيها العاريتين). يخطر ببالي أن ارتالاً من الدبابات تلاحقها وحدها من ضاحية إلى ضاحية. أرتال من الدبابات تحاول قصف شعرها. أرتال من الدبابات من أجل رزان زيتونة. هذه هي معجزة دمشق.

راسم المدهون في درعا. الشريد الفلسطيني مرة أخرى تحت الحصار. لا خبر ولا مقالة أسبوعية بهمومه الفلسطينية: لقد أنجزوا المصالحة يا راسم على غفلة منك. منذ ثلاثة أسابيع جاءني خبر من السويد إنك بخير. من السويد الاسكندنافية تصلنا أخبارك وأخبار درعا. ما عاد ممكناً أي حصار.

نحن بخير، هنا في بيروت نسهر مع “الأخبار” ويحيط بنا أيضاً الصمت القسري.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى