صفحات الثقافة

سلامٌ عليك هالة


ماجد رشيد العويد

اسمها هالة، والقلب يوجعه وجيبه ونحيبها. هالة لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن حمزة الخطيب أو تامر الشرعي. الكل أطفال صوّبوا نظراتهم إلى مستقبلهم عساه يكون أفضل حالاً من ماضي وحاضر آبائهم.

الحقيقة المرّة أن هالة، وإن تشابه مصيرها في نتيجته مع مصير المذكورين، إلا أن طريقة الموت كانت أشنع فهي لم تتعلم بعد النطق جيداً، وأما مشيها فكان في مراحل السعي باتجاه لعبة لها مركونة عند هذه النقطة أو تلك، وكان البيت إذا ما تكلمت ونطقت يزدهر بالفرح، فيتلقفها أبوها ويجذبها إلى حضنه، ثم يطبع قبلته على جبينها وعلى خديها.

لم يدر في البال والخاطر أن موتاً فاجراً صاعقاً بالانتظار يتشهى عنقاً أبيضاً ناصعاً، ولم يدر في البال والخاطر أننا كمن يرى كابوساً يلخص العلاقة بين قاتل خرج من سردابه، وبين طفولة خرجت من رحمها إلى الدنيا.

سوريا كانت الحلبة والميدان، وهي اليوم قطعة من الأرض مبللة بالدم، ملفوفة بالمواجع. تشرب أرضها من دم أبنائها وتهيم على روحها سكرى، وربما جذلى، وكأنها سعيدة بغدائها. ليست مصاصة دم، ولا دخل هنا لخيال البشر. الأرض هنا حقيقية أطلقوا عليها اسم سوريا، كانت عطشى فسقاها أبناؤها من دمهم ما جعلها ترتوي وتضحك من دون أن تسأل عن المزيد، ولكنها كمن يخزن في باطنها طعاماً للسوريين القادمين إلى وطن جديد يخلو من مفاسد العهد البائد.

هالة قصة وحدها، مؤلمة بحالها، فإن بكت العين فهذا أضعف ألوان التعبير عن ردة الفعل على الشر الذي نفر منهم، من عقولهم وقلوبهم، وتجلى حاداً قاطعاً بسكاكينهم.

هي لا تدري ماذا سيحل بها. لا تعلم عن مصيرها شيئاً. ناداها فلبّت تمشي مشيتها التي أثارت الفرح أياماً في حياة أبويها، مسرعة ضاحكة، وربما باكية خائفة من صوت انفجار تلقته بأذنيها الدقيقتين الصغيرتين، وكانت تواً قد فقدت أمها وأباها. أسرعت إلى حضنه وارتمت فيه خائفة من صوت لم تعتده، وبين رغبتها التي لم تعها جيداً في خلاصها من موتٍ ألمّ بأبويها، وقبل أن تدفن رأسها في حضنه وقبل أن تطمئن إليه، وبلحظة خاطفة لم تدركها أدارها فجعل ظهرها إلى حضنه، ووجهها إلى ذلك الفراغ المدمّر المملوء بالدخان وأصوات الرعب. في تلك اللحظة تماماً كانت السكين تقطع الرأس كاملاً وتفصله عن جسد غضًّ طري لم يختبر الحياة بعد. عندما ألقى بها، وهو ضاحك، كان الجسد مقطوع الرأس يضرب الأرض ويتلوى، ولم تهدأ حركته إلا مع انفجار برميل آخر.

كان اسمها هالة، هالة من نور يخترق القلوب، ويوجع الأدمغة. هالة ذرتها الريح مع تراب الأبنية المدمرة. غير أن هالة، التي تسبح اليوم في فضاء سوري غاب من وجه العالم خمسين سنة، تؤكد كما لم تفعل من قبل أنها نشرت شعاعها على كامل الأرض التي اسمها سوريا. سلام عليك هالة، ومثله على حمزة وتامر. سلام على بلد يصنع حكاياته وعلى أبناء يرفدونه بأرواح غضّة وطرية وأخرى مكتملة، وثالثة أصابتها فاجعة السنين الخمسين الفائتة.

كاتب من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى