صفحات الرأي

سلطة اللاخيارات الإكراهية/ ماجد الشيخ

 

 

 

ينزع المتأسلمون على الدوام إلى إحلال فهم سلطوي لحركية المجتمع والدولة في بلادنا، على حساب أي فهم تاريخي، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تعدد وتنوع أشكال السلطات وهيمنتها على أفهام الناس، لا تختلف في هذا الأمر كل قوى الإسلام السياسي، المتطرف منها ومن يزعم أنه الأكثر اعتدالاً. فكلهم في حدود انتقاء الخيارات السلطوية سواء. كما لا يختلف الأمر لدى المذاهب والطوائف المختلفة، خصوصاً تلك التي ترى في ذاتها خليقة بالسلطة، وبأحقيتها تملك وحيازة ليس سلطة الفهم الديني بنقلياته وتأويلاته المختلفة، بل بممارستها سلطة الخلافة أو الولاية، كأعلى سلطة دينية تتماهي فيها ومعها مفاهيم «السلطة الإلهية»، كما يفهمها الأتباع والعباد الصالحون وغير الصالحين من انقياديي النقل الحرفي والتحريف التأويلي بما حواه ويحويه من أسطرة وتقويلات وتقولات هي أقرب إلى حكايا وخرافات الجدات في ليالي الشتاء.

ما يمارسه المتأسلمون من سلطة الفرض القسري والإكراه على الناس، ومحاولة تلقينهم تلك المفاهيم الخاصة بهذه الفئة أو تلك، وزجر الآخرين بكلياتهم أفراداً وجماعات، على اعتبار «جماعتهم» هي «السلطة المختارة» لتنفيذ شكل وإرادة التدين ومقاصده، كما تفهمه هذه الجماعة أو تلك الفئة، مثل هذه السلطة الإكراهية لا تختلف في مفاهيمها التدينية، بين «دواعش الخلافة» أو «دواعش الولاية الفقهية»، وما قام ويقوم على حوافهما من حشد أو حشود ميليشيات وظواهر وتزعمات وأدوات يجري توظيفها لمصالح وغايات سياسوية سلطوية، لا دينية ولا تدينية، ولا علاقة لها بأي مستوى من مستويات القداسة.

لقد سقطت كل فقاقيع وظواهر الإسلام السياسي المتطرف منه والمعتدل في هوة الإرهاب «الداعشي»، ومارست معه حربها التدميرية والتخريبية داخل مجتمعاتها وأوطانها، وفي ما يحيط بها من بلاد تحكمها أنظمة سلطوية استبدادية، ترتع فيها الأزمات التي استفحل فيها الإرهاب جراء الاحتلالات والتدخلات الأجنبية كما في سورية والعراق، منذ وقوع هذا الأخير تحت الاحتلال الأميركي، وما استدعاه من تدخلات موازية، وصلت حد احتلال الميليشيات الطائفية للدولة، وفرض رقابة «غستابوية» على المجتمع وعلى إرادات الناس، ورفع منسوب تدخلات «الجار الإيراني» في شكل وجوهر السلطة الطائفية التي باتت تحكم هذا البلد، وما جرته من استدعائها لحروب متعددة، أهلية في جوهرها، لن تنتهي بانتهاء الحرب ضد «داعش»، كتنظيم متذرر ومتشظ في معظم المناطق، يغب مما يسمى «المظلومية السنية» مستنداً إلى قواعده من الذئاب المنفردة ومجموعاته القليلة الباقية على قيد الحياة، ليواصل خط أشكال حرب قد لا تنتهي بسهولة عبر تسوية ممكنة؛ فمثل هذا «الفقه المتوحش» وقد وجد له أنصاراً ومبايعين، سيبقى يقيم حربه المتواصلة على أسس سلطوية واستبدادية واضحة، تقوم على ما بني تاريخياً وجرى اختلاقه من سرديات الفتنة «التاريخية» وهي تواصل عجن وخبز المزيد من المقاتل، والدفع بها وكأنها الحرب «المقدسة» التي قررها التدين السلطوي في جوهره الفتنوي المعادي للآخر، وكل آخر لا يرطن برطانة هذا الطرف أو ذاك.

وعلى هذا يصبح توظيف «وعي» الحدث التاريخي بوصفه أداة لاستدعاء الفتنة، وليس للفهم أو الاعتبار منه، بمثابة سلطة يستخدمها كل طرف في مواجهة الطرف الآخر، مع أن كليهما ربيب سلطة يطلبها لنفسه ويريدها له وحده، وذلك على خلفية نوع من القداسة المزعومة، حين تصبح السلطة ضمن المقدس المفهومي والأداتي في مواجهة الآخر، الذي يطالب لنفسه بما يطالب به الآخر، كل هذا في دوامة من الاجترار والتكرار والنقل الذي لا يتعلم منه أحد، طالما أن سلطة التدين ووظائفها للاستثـــمار والاستنفاع بها، لا تنطق ولا تعبر إلا عن روح انتقائي يقارب «هوى المقدس»، وما يراد له من تحققات الأهواء والغايات الخاصة، رغماً عن التاريخ وسرديات العالم المليء بالمعنى، لكن ومع تسييد أشكال التدين المحلية الخاصة، السائدة بأشكالها المختلفة عندنا، لا يغدو التاريخ مفهومياً، مفهوماً قابلاً للفهم والهضم والاستيعاب، كما باتت سلطة اللاخيارات الإكراهية، إحدى الخيارات الممكنة والمفروضة بالقسر والإجبار دينياً ودنيوياً، في أبرز تجليات اقتران وتماهي السياسة التدينية بالسلطة الدنيوية.

* كاتب فلسطيني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى