سوسن جميل حسنصفحات الناس

سلطوية التعليم في سوريا/ سوسن جميل حسن

كل شيء تغيّر. في مثل هذه الفترة من كل عام كانت البلاد من أقصاها إلى أقصاها تنشغل بهمّ واحد يخلق نشاطاً اجتماعياً واقتصادياً وإدارياً وحكومياً وسياسياً حتى، إنه موسم العام الدراسي الجديد.

في سوريا السابقة كان الوضع مختلفاً، ليس لهذا الجانب وحده، بل لكل جوانب الحياة، ومَن يراهن على بقاء الحال كما هو يكون محدود الأفق، فالحالة السورية على مدى أكثر من ثلاثين شهراً غيّرت الأوضاع كلها، وغيّرت الخارطة الجغرافية السياسية للدولة السورية. الوضع الميداني مؤلم للغاية ومعظم أطفال سورية (40%) خارج المدارس وخارج العملية التعليمية والتربوية أكانوا في مخيمات اللجوء، أو في المناطق المنكوبة، حيث تحوّلت المدارس إلى ملاجئ، أو في المناطق المشتعلة، حيث تحوّلت أيضاً المدارس إلى ثكنات عسكرية، أو في مناطق أخرى دمرت مدارسها. الموسم الدراسي الذي أوشك على الشروع بدورته الجديدة يدفع إلى وقفة تأمل وجردة حساب.

لم تكن العملية التعليمية في سوريا سليمة خلال العقود السابقة، والعملية التربوية لم تكن كذلك، حتى بعد فصل التربية عن التعليم رسمياً، واختصاص كل عملية بوزارتها، على الرغم من تلازم العمليتين، إذ ما فائدة التعليم إن لم يكن مدفوعاً بنهج تربوي؟

المجتمع السوري يعاني من استبداد سلطات عديدة من سياسية واجتماعية ودينية وثقافية واقتصادية، كانت تتدخل في العملية التربوية على شكل سلطة أخرى، هي نتيجة حتمية لاجتماع تلك السلطات، هي السلطة التربوية، ما فرض جواً من الكبت الفكري أدى إلى تعطيل طاقات النمو. فبقدر ما تطلق التربية في جو من الحرية طاقات الفرد، يعمل القهر والقمع على قتلها. فمدارسنا وجامعاتنا أيضاً كانت، ومازالت حتى اليوم، هي مراكز للتلقين والترويض والإخضاع، مستخدمة أدوات عديدة وخططاً متنوعة للوصول إلى الهدف المنشود وهو إعداد كوادر تتميز بشخصية متكيفة مطيعة، مغيّبة الوعي، معطلة التفكير غير قادرة على الضلوع بدور فاعل بل تبقى منفعلة على الدوام.

العملية التربوية والتعليمية كانت تقوم على أساس التسلط والفوقية والمركزية، وكانت موجهة لخدمة الفكر الواحد، وتبني الرأي الواحد، تتدخل في ذلك أجهزة الدولة الأخرى التي لا علاقة تربطها بهذه العملــية، منــها الأجهزة الأمنية ومنها كوادر القيادة السياسية، حيث يوجد في القيادة القطرية مكتب التربية القطري يوازيه في المحافظات مكاتب فرعية في مقرات الفروع الحزبية، بالإضافة إلى زرع مواد وحصص دراسية خاصة في جسم المنهج التعليمي، على حساب حصص الأنشطة والحصص الإثرائية والتي تنمي المواهب الفردية وتحض على الإبداع، وهي مواد التربية العسكرية والتربية الوطنية والقومية التي كانت منابر يتم من خلالها غرس الفكر والقيم والأهداف والاتجاهات السياسية التي يريدها النظام السياسي، بحيث يقوم النظام التعليمي، بدور التنشئة السياسية وتخريج أجيال مؤمنة بمسلمات تقوم على أساس أن الحكومة والنظام هما سر وجودهم واستمرارهم في الحياة. وكل من واكب أجيالاً من الطلاب تخرجوا في العــقود الماضــية يعرف كم كانت مادة التربية القومــية تشــكل حالة ذعر بالنسبة لطلاب البكالوريا، كما مادة الثقافة في الجامعات تشكل حالة إعاقة وإحباط.

هذا الشكل من المحاصرة والرصد والتقييد للعملية التربوية وحشرها في أنساق محددة وجاهزة تم رفده بأدوات أخرى، تجلت في هيكلة الإدارة والتقويم التربوي، بحيث أصبحت العملية التربوية معطلة أو شبه مشلولة، وقد أدت إلى تخريج دفعات من المتعلمين غير قادرين على الابتكار أو المساهمة في عملية التنمية في ما لو وجدوا فرص عمل، ولم ينضموا إلى قوافل العاطلين عن العمل والأمل. فالإدارة موجودة لتنفيذ التعليمات المركزية الصادرة عن أعلى الهرم في الوزارة المعنية، بالإضافة إلى تعليمات القيادة السياسية وأوامر الفروع الأمنية، إن كان لجهة التعيينات أو النقل أو المنهاج الدراسي وتوجيهه، عدا عن آليات تقويم أداء المعلمين عن طريق المشرفين التربويين الذين يمارسون تسلطهم الخاص على المعلمين، إلى تقويم الطلاب بطريقة الامتحانات الشائعة، وما يتخللها من غش بسبب الفساد والرشوة أيضاً، وهذا ما كان يدفع ببعض الطلاب إلى الهروب أو الإحباط أو الجنون أو الهجرة أو حتى الانتحار أحياناً بسبب عدم قدرتهم على أداء الامتحانات بهذه الطريقة.

لم تتغير الطرق ولا المناهج ولا أساليب التربية والتعليم، برغم كل ما حصل ويحصل. في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفصائل الإسلامية من المعارضة نرى في التقارير التلفزيونية أن النهج التعليمي والتربوي واحد، مع فارق النظام المسيطر، حيث نشهد في الصفوف الابتدائية فصلاً بين الأطفال الذكور والطفلات الإناث، كما نرى أن الحجاب مفروض من المراحل الباكرة، ونرى الآلية التعليمية تقوم على التلقين الكامل، وترسيخ فكر واحد هو الفكر الديني، بحـيث تعود العملية التعليمية والتربوية إلى الانضواء تحت خيمة العقيـدة أو الإيديولوجيــا، التي تنادي بالعودة إلى الشريعة التي ترى فيها حلولاً لكل المشاكل البشرية، علماً أن تاريخ الأمة العربية والإسلامية يعطينا الدليل على أن أوج ازدهارها الحضاري كان مترافقاً مع ازدهار الاجتهاد وإطلاق الحريات الفكرية ومعالجة المشكلات بالمواءمة بين النصوص والواقع المتغيّر.

إن الحرب القائمة يجب ألاّ تفقدنا القدرة على الرؤية الصحيحة ومحاولة وضع تدابير وقائية تفادياً لتفاقم المشاكل مستقبلاً، بعد هذا الدمار الكبير والانتهاك الشرس لكيان الدولة، فتنشئة أجيال على أسس تربية سليمة سوف يؤسس لبناء سوريا المستقبل.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى