صفحات الثقافة

سلمان رشدي في ضيافة “هاي فيستيفال” المكسيكي: لا نعرف من أين يتحدّر هذا الواقع لكن الجديد أن التطرّف بات جيشاً/ رلى راشد

 

لم تكن علاقة الكاتب سلمان رشدي بالعالم الإسلامي مريحة يوماً. اجتازتها حقبات من العداء المطلق وهدر الدمّ وصولا إلى مرحلة من الخصومة الملطّفة أشيع خلالها أن ثمة انعطافاً حصل، أسقط من جرائه الحُرم الفكري والجسدي الحائم في سماء صوتٍ، جمع بين هويّة بريطانية مستحدثة وأصول هندية عتيقة وانتماء مُلتبس إلى الإسلام. لهذا السبب ربما يصير كلام سلمان رشدي، في هذا التوقيت، عن التطرف الديني، في فصوله القديمة كما الراهنة، والمنفلش في حديقتنا الخلفية، مدعاة للقراءة المتمهلة التي لا مفرّ من أن تبحث من خلال الرأي الفردي الآتي بالتنظير الجماعي عن خبايا التجربة الشخصية.

 

في ضيافة “هاي فيستيفال” في مدينة تشالابا المكسيكية، تحدّث رشدي عن الرواية وقدرتها كنوع. استعاد كلاسيكيات أميركا اللاتينية في القرن العشرين ليُقرّ بتأثير هذه القارة في الآداب المعاصرة، موضحاً أن المنجز الذي يتصدى له تأليفياً على صلة وثيقة بالعودة إلى تقليد الحكايات الشرقية. غير ان الروائي والباحث لم يكتفِ بهذا المنحى، وإنما سعى إلى الذهاب أبعد، والتمهّل عند ما أصاب الواقع الراهن، ليتركنا كقراء نحاول أن نتلقّف ما قيل وخصوصا ما لم يُقَل.

ربما يكون السؤال الأساسي هو الآتي: أين يحدث التقاطع بين الأدب والسياسة، ومتى يصير الحدث السياسي مدعاة لتأمّل الكاتب؟ لا بدّ أن يدفَعَ الطارئ والملحّ والهمجي والخارج على السياق العام أيا يكن، بالمؤلِّف إلى تخوم التحليل وإلى التوقّف مليّا ليستفهم ما يحصل. في حين أن ما يؤرق فعلاً، هو السعي إلى أن يفهَم لماذا أُصيبت الإنسانية بمرض التراجع، وما الذي يجعل محرّكيها يهمّشون الرغبة في التقدم، لمصلحة الرغبة في إرجاع عقارب الساعة قسراً إلى المربّع الأول؟ من واجب الكاتب والفيلسوف والباحث، الذهاب إلى أبعد من المشهد الخارجي، والنبش في نسق الصورة الإستعراضية، أكانت دموية كما يحدث عند أبوابنا، أم هزليّة، أم مثيرة للإبهار حتى، كما يحتمل أن يحصل في كل لحظة أخرى.

سبق لسلمان رشدي، قبل نحو عامين، أن نشر مذكّراته الآتية بمثابة تصريح فسيح، حيث بسط الصراعات السياسية التي واجهها وتلك الثقافية أيضاً. جاءت نصوصه روايةً ليوميات امتدت عشر سنين، في ظل الفتوى التي صدرت في حقه قبل عقود عدة. سمّى مذكراته “جوزف أنطون”، وهو عنوان جمع في صيغته الإسميّة بين أنطون تشيخوف وجوزف كونراد، كمرجعين أدبيين، ارتاح الكاتب البريطاني أن يستعير حقيقتهما، ليتلبّس في كنف الصفحات ضمير الغائب، في حين دفع به هذا العمل أيضاً إلى التخلّي عن الإفتتان الصرف باللغة ليستدعي الصراحة. كتب رشدي متأملاً في مذكراته، داعياً الكتّاب إلى عدم التستّر خلف نصوصهم الأدبية. سأل: “هل يهمّ إذا جرى تجريد الكاتب وإن جرت تعريته من ثراء اللغة؟ نعم إن ذلك على أهمية، ذلك أن من شأن الجمال أن يمسّ أوتار القلب العميقة، فالجمال يفتح أبواب الروح. للجمال أهمية لأن الجمال هو الغبطة، والغبطة هي السبب لجعله يفعل ما فعله. إنها الغبطة في وسط الكلمات وفي استخدامه لها بغية سرد الحكايات وابتكار العوالم والغناء أيضاً. أما راهناً فتجري معاملة الجمال كترف ينبغي للكاتب التخليّ عنه كأنه كذبة”.

الجمال إذاً مطيّة فكرية عند رشدي وهو يصرّ على التمسك بها. اليوم يُطلب منه في صحيفة “إيل باييس” الإسبانية إسداء الرأي في الآفة التي تضرب عالماً يحوطنا، وعلى ما يبدو ثمة في جوابه إشارة ضمنية إلى النزعة صوب التخلي عن هذا الجمال المرجو. يُسأل عن الميل الطارئ لدى الشباب الغربي للمجيء إلى بقعة جغرافية محددة بهدف “الجهاد”، فيؤكّد رشدي أنه عاجز عن اختصار الإجابة في جملة واحدة. هذا قبل أن يشدد على أن ثمة حنقاً كبيراً “لأننا نعيش في زمن الصعوبات الإجتماعية والاقتصادية وأن ثمة ناساً بلا عمل بل وأن لا أفق في حصولهم على عمل”. ليردف في مكان متقدم من نظريته ان الجديد في المشهد اليوم يخصّ القدرة التنظيمية قبل أن يتابع: “في وسعنا أن نتكهن في شأن ما سيحصل في بلاد محددة أو في أخرى غير اننا لا نعرف فعلاً من أين يتحدر هذا الواقع الراهن”، لينهي: “الجديد هو أن التطرّف بات جيشا”.

سبقَت كلامَ رشدي افتتاحيةٌ لمُسلمي فرنسا بأيام. نشرَت شخصيات من عالم الكتابة والسينما والمال والطب والأنثروبولوجيا ومن الناشطين في جمعيات أهلية وسواهم، نصاً في صحيفتي “لو فيغارو” و”ليبيراسيون” طلبوا فيه التضامن مع الضحايا ليعلنوا إزاء كل أنساق التهديد والوعيد: “نحن أيضا فرنسيون قذرون”. ذكّر هؤلاء بكلام بسيط لا يحتمل التأويلات “ان الإسلام دين أسُسه السلام والرحمة واحترام الحياة”.

يبدو الجميع في حاجة إلى إبداء الرأي في الظواهر المارقة التي تحوطنا، وربما يكون الكتّاب أكثر المُلحّين، يبحثون أحياناً، خطأ أو صواباً، عن مبررات خروج نتوءات من هيكل عربي مُستتب في الظاهر. هل نحتاج إلى أصوات تأتينا من أقاصي العالم لنجد جوابا شافيا، وهل يصحّ تقديم أي جواب جازم اليوم قبل انتظار الغد؟ جلّ ما نعرفه ان زرع الخوف مرادف لكلمة إرهاب بحسب الجذر اللغوي اللاتيني، بينما تقول بعض المفاهيم الفلسفية الحديثة ان الإرهاب هو استخدام لاعبين، هم دول أحيانا أو سواهم، واعين أو طائشين، للقوة ضد غير المحاربين، وذلك لأغراض إيديولوجية، وان هؤلاء ينشطون في ظل غياب المسار القضائي العادل.

كثير من الإجحاف المؤسسي والدولتي والقانوني في جوارنا، فلا عجب ربما في الوصول إلى ما وصلنا إليه.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى