صفحات الثقافة

سلمية سلمية

 


عباس بيضون

تجمع التظاهرة مئات وآلافاً ويجمع الاعتصام مئات وآلافا وربما عشرات الآلاف لكن الحاكم ليس قليل الحيلة فهو يجمع في المقلب الآخر مئاته وآلافه وعشرات آلافه. يقف الحاكم ليفاوض ليس فقط باقتراحاته ولكن أيضاً بجماهيره. انها المساومة الكبرى. الحاكم مع جماعته في ناحية والمعارضة مع حشدها في الناحية المقابلة. انها مفاوضة لكن ليس باللسان وحده فغالباً ما يدخل على الكلام امتحان قوة، رصاص وهراوات وقنابل مسيلة للدموع. وكل ذلك يزيد المفاوضة حدة أو يرفع من سقفها او يقطعها برهة. المفاوضة لذلك رجراجة غير ثابتة فكل يوم يأتي بجديد ولكل يوم أداؤه. انها المفاوضة في الشارع، مفاوضة في العلن وكل استدخال لها لا ينتهي بتخصيصها او تسويرها او تحويلها الى الداخل. لا تفعل المداخلات من داخل او خارج إلا زيادة إنكشافها وزيادة علنيتها. المفاوضات تجري في الشارع وأمام الملأ، هنا يمكن للملاحظ أن يرى كيف تصدر المواقف وكيف تنتج، وكيف توضع الشعارات وتعم وتنتشر. وكيف يتوصل شتات متفرق الى اجماع او كلمة واحدة. يمكن للملاحظ ان يرى من الطرف الآخر كيف تدور المفاوضة وكيف تتغير أساليبها وتكتيكاتها. هناك مسافة بين “حرية حرية” و”الشعب يريد إسقاط النظام” هي ذاتها في كل الانتفاضات. لكأن هذه المفاوضة المباشرة المعلنة هي النموذج العربي للانتفاض. يسعنا هكذا ان نتكلم عن ولادة نموذج عربي. سادت في يوم جيوش التحرير وسادت في يوم بعده حروب الشعب، والحقيقة ان جيوش التحرير لم تحرر، بل انقلبت الى عصب محلية لا تدافع فقط عن سلطانها بل عن حدودها ودولتها. كما ان حرب الشعب لم تلبث ان جرت معها كل “اللاوعي الشعبي والخام الشعبي وغدا السلاح الرمز، مصدر القوة والإرادة والتاريخ، في خدمة الشخص وشبه العشيرة الشعبية والمحلة والطائفة. لذا فاجأنا نزول الجماهير السلمي وتحول الشارع الى السلم وهو الذي كان دائما يتخذ من السلاح شارة ورمزاً. كانت حرب الشعب كما كان التحرير ثمرتي مخيلة لا يعوزها إلا السلاح ولا تحل محله شيئاً. إذ ما نفع فكر لا يجد سبيلاً الى القتال ولا أداة له. ما نفع شعار هوائي وهتاف أجوف ان لم يكن لهما شيء من قدرة، كان شغفنا بالسلاح رومانطيقيا فالذين حلوا في السلطة باسم التحرير والذين هيمنوا باسم حرب الشعب كانوا احرص ما يكون على احتكار السلاح والانفراد به، لكن هذا الحنين للسلاح كان شبيها بحب مصدوم لا سبيل له إلا التغني والشوق العقيم والأمثلة الدائمة.

ما كان يخرج من فوهة البندقية آنئذ ليس رصاصاً فحسب بل أشواق وأحلام وحب ملتاع. كانت عبادة السلاح والمسلحين طابع مرحلة كاملة، لكن السلاح لم يكن أفضل مصيرا من سواه. لقد عاد هو الآخر بخيبة اضافية، لقد هزمنا سلاح الآخرين في يوم، أما سلاحنا الذي رفعناه الى السلطة فطبعها بعنف دموي أحياناً، أما السلاح الذي هيمن على الشارع فقد تخلق بأخلاق الشارع أحيانا كثيرة وطبعه هو الآخر، بعنف وافتئات. نفهم إذا كيف ولماذا تشبثت الجماهير بالسلم وجعلت منه شعاراً ومثالاً. نفهم إذا كيف ضاهت الجماهير اليمنية الجمهور الأوروبي في سلميته وإصراره على السلم على رغم الرصاص المتطاير من قبل الأمن والعنف المباغت، مع ان السلاح موفور بكثرة لدى الجميع في مجتمع قبلي يباهي الرجل فيه ببندقيته قبل ان يباهي بأي شيء آخر. لقد اعتبر التونسيون والمصريون من بعدهم ان السلم فارق حقيقي وحد فاصل لا يجوز تعديه حتى في الدفاع عن النفس. تقبلوا الموت قتلا ولم يردوا عليه بالقتل. بل استمروا في نصبه مثالاً وفارقاً ولم يجرهم الى السلاح داعي الانتقام او الثأر. السلطة هي العنف والعنف متروك لها اما الجمهور فيناضل بما يخصه: الكثرة والحشد والهتاف والمطالبة. كان التحرك السلمي تحدي الجماهير الحقيقي وميزتها عن السلطة، انتهى عهد “والله زمان يا سلاحي” فثمة عهد جديد، انه عهد “سلمية سلمية، حرية حرية”. انه عهد جديد حقاً بقيمة وأدواته واستشرافه المستقبلي.

مر وقت بدا فيه ان الحرية لا تهم الشعب. بل بدا فيه لكثيرين، وأنا منهم، إن للديكتاتورية جذوراً عميقة في تربيتنا وثقافتنا وتاريخنا. قال مستشرقون انه الإسلام وقلنا انه الانحطاط وقلنا انها الهزيمة التي باشرنا بها عصرنا في فلسطين وغير فلسطين. لم يكن هذا شأن الجمهور فحسب فالمثقفون في طور كامل قدموا التحرير على الديموقراطية وثمة ديكتاتوريون عبدتهم جماهيرهم ونظّر لهم مثقفون كثر اعتبروهم قدر الأمة التي لا تقوم إلا بقدرها. مع هتاف “حرية حرية، سلمية، سلمية” تتغير قيم وغايات وأدوات. كان الاستبداد يتحجج بالمستقبل، لا بد من أن نكون جنود هذا المستقبل فالتحرير له كلفته وثمنه والتحرير يستوجب رص الصف ولو بالإرغام وإدغامه في الدولة والجيش، والتحرير يستوجب الانضباط والطاعة والحذر من الآخرين والأجانب، والتحرير يقتضي وقتاً من الإعداد والتأهب. طال بالطبع هذا الوقت حتى بدا أنه بلا نهاية ولم يعد لدى الاستبداد ما يتذرع به لفرض هيمنته. لقد تم كل شيء باسم المستقبل والآن لا يبدو أن لهذا المستقبل وجوداً حقيقياً. الآن تبدو التضحية بالفرد والحرية في سبيل مستقبل كاذب، فقد تجددت الهزيمة مراراً وتكراراً. الآن تبدو التضحية بالحاضر في سبيل مستقبل يبزغ محترقاً ومطفأ، هراء كامل. لقد طالت الوعود وطال انتظارها وما تحقق كان عكسها. لقد ازداد تصلب السلطة وعنفها وبدا أن هذا كل ما تستطيع أن تحقق وأنها تفرضه مجاناً وبلا ثمن، وليس سوى إطالة عمرها وإطالة هيمنتها. إنها تعد بمستقبل ليست من جنسه ولا هي أهل له بثمن باهظ هو خسارة الحاضر.

الذين خرجوا بمئات الآلاف وأحياناً بالملايين خرجوا في سبيل هذا الحاضر. خرجوا بالملايين لكن كل واحد له في هذه التظاهرة ما يخصه. كل واحد هو فرد أولاً، إنه يطالب بالحاضر لكن يطالب بما هو له، حريته، نعم حريته كمواطن وحريته كفرد. يمكن أن نلحظ كيف مارس كل واحد لعبته الخاصة، وتجلت بكلمة على يده أو على جبينه وأحياناً بطرفة شخصية “ارحل، مراتي بتستنى”. لم تخرج هذه الحشود كجيش ولا كميليشيا. لقد خرجت لتطلب ما لها. لتطلب ما يخص كل فرد منها.

كان هناك سلاح آخر هو اليأس. الذين نزلوا إلى الشوارع هتفوا “الموت ولا المذلة” ليس هذا جديداً لكن الذين خرجوا لم يخرجوا كانتحاريين. لم يخرجوا طلباً للموت. لقد خرجوا ليطلبوا المستطاع. لم يغالوا في طلبهم ولم يشطوا. لقد طلبوا المستطاع، البسيط لكنه المستطاع البسيط التي لا تقدر السلطة على منحه إلا برحيلها. البسيط الموفور في كل مكان آخر لكن السلطة قامت تماماً على عكسه ولن تقدمه إلا وهي تجازف بموتها. اليأس لأن حقوقاً طبيعية أو صارت طبيعية لا تنال إلا بثمن باهظ. اليأس من السلطة لأن أي تراجع يعني رفعاً للثمن ومزيداً من العنف والدم. لقد خرجوا مسالمين لكن بعناد استثنائي. خرجوا ليفاوضوا السلطة في الشارع على رحيلها. لقد رموا بشرعيتها أرضاً. كان المشهد هو الثورة لكن بلا أي فرصة للسلطة. الجماهير تُصنع يومياً. الجماهير تتكون كل يوم والشرعية الملقاة أرضاً تزداد يوماً بعد يوم، انعداماً. إنه مشهد كامل. الجماهير فيه والسلطة في تقابل شبه مسرحي. الجمهور يتكوّن والسلطة تتفكك. الجمهور والسلطة في لعبة واحدة تحت أعين الجميع. ما من مهرب بعد للسلطة. مهربها الوحيد هو أن تنكر، هو أن تنفي، لكن اللعبة هذه المرة تحت الأعين والإنكار سيكون مكشوفاً ومفضوحاً من لحظة البداية. الجمهور يوجد أقوى فأقوى والسلطة تتخبط أكثر فأكثر. هناك دائمً أعداد أخرى تحل محل الموتى، لكن السلطة لن تجد من يحل محلها كلما خوت وتضاءلت. الشجاعة مطلقة والإيمان بالحياة كامل. لا يستطيع الموت أن يبدده. الناس تعيش في غيرها. تعيش في إصرارها ومطالبها. تعيش في الحرية التي بدأت من الآن. تعيش في غد لا تسلمه لحواة المستقبل ولا المشعوذين الإيديولوجيين ولا مزاعم السلطة ووعودها.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى