صفحات الثقافةهوشنك أوسي

“سلّم إلى دمشق» وخطابه السينمائي الملتبس/ هوشنك أوسي

 

 

بين فيلم «سلّم إلى دمشق» للمخرج السوري محمد ملص، والذي عرض أخيراً ضمن مهرجان الكاميرا العربية في مدينة روتردام الهولنديّة، وفيلم «أحلام المدينة» الذي أخرجه ملص نفسه عام 1984، نحو 30 سنة. وكلا الشريطين السينمائيين، يروي حكاية مدينة واحدة، أو حكاية وطن، هو سورية، والتحولات التي طرأت عليه، خلال فترتين متباعدتين،من دون أن ننسى أن «أحلام المدينة» يرصد حقبة الخمسينات، وما شهدتها من انقلابات عسكريّة وتأثيرها في حيوات الناس والمجتمع، مادحاً ومشيداً بالناصريّة، والوحدة بين سورية ومصر، على أنها الحلم الكبير من «أحلام المدينة»، الذي تحقق! بخاصّة في المشهد الأخير الذي يقول فيه أبو النور (أمين زيدان) للطفل ديب، وهما ينظران إلى السماء المقمرة: «الله بذاته مع الوحدة»! مع الأخذ في الاعتبار أن ملص حقق «أحلام المدينة»، بعد مضي 23 سنة على فشل «حلم» الوحدة! بينما يتناول «سلّم إلى دمشق» تأثير الثورة السوريّة في الشام، ومعاناة الناس، عبر رصد حياة مجموعة من مستأجري أحد البيوت الدمشقيّة القديمة، وتفاعلهم مع الأحداث وأصوات الانفجارات وأزيز الرصاص، وهدير الطائرات.

الانتحار حزناً

تدور أحداث الفيلم (97 دقيقة) بين مدينتي طرطوس ودمشق السوريتين، عبر رصد حياة شخصيّة الفتاة السوريّة الساحليّة، غالية، المسكونة بروح فتاة أخرى (زينة) فقدت حياتها انتحاراً – غرقاً، حزناً على اعتقال والدها، يوم ولادة غالية. حيث حاول ملص الاستفادة من عقيدة التقمّص الموجودة في التراث والفقه العلويين، بطريقة سينمائيّة، عبر استحضار غالية ذكريات زينة، بحيث تصبح معاناة والد الأخيرة (السجين السياسي) معاناة غالية أيضاً، إضافة إلى أن طيف زينة لا يغادر غالية، محدثاً قلقاً وإرباكاً وحزناً مستديماً في حياتها.

تقرر غالية السفر إلى العاصمة دمشق، لدراسة التمثيل، علّها بتغيير المكان، والأجواء والمناخات، تتخلّص مما هي فيه من ازدواج الشخصيّة. وهناك، تلتقي فؤاد، وهو مخرج شاب وطموح، ومهووس بالسينما، تثير انتباهه ازدواجيّة شخصيّة غالية، فتنشأ بينهما علاقة صداقة، ويساعدها في إيجاد سكن، ضمن منزل دمشقيّ، تملكه سيّدة مسنّة، يستأجر غرفه أشخاص من مناطق سوريّة عدّة، منهم فؤاد نفسه. داخل المنزل، تنشأ حكاية حبّ بين غالية وفؤاد الملقّب بـ «سينما»، ويقرر الأخير أن يحقق فيلماً عن شخصيّة «زينة» – غالية. في الوقت عينه، تتصاعد الاضطرابات في سورية، منتهكةً تدريجاً عزلة الشخصيات. وتتداخل قصص الموجودين في المنزل الذين ينتقدون حال الحرب التي تعيشها سورية، ويريدون الحرية والتغيير، مع توجيههم النقد للاستبداد الحاكم أيضاً. وصحيح أن تحميل الفيلم نظام الأسد، من دون الإشارة إليه بالاسم، مسؤوليّة ما يجري في سورية، وطرحه أسئلة مفتوحة، من ضمنها، حول دور الفن والسينما وجدواهما، في مراحل الحروب والأزمات، فيه جرأة كبيرة، قياساً بالوضع الذي تعيشه سورية، والتوحّش الذي تعبّر عنه آلة نظام الأسد القمعيّة، إلا أن، الصحيح أيضاً أن الفيلم يشكو من نقاط ضعف وثغرات عدة، نوجز منها:

1 – فيلم «سلّم إلى دمشق» الذي تمّ إنتاجه عام 2013، ليس مطالباً بأن يكون منتمياً إلى حقبة «الواقعيّة الاشتراكيّة» في السينما، كـ «أحلام المدينة»، لكنه سقط في طغيان المعالجات الفنيّة الرمزيّة على لغة الفيلم، عبر محاولة دمج تقنيّات المسرح ولغة الشعر في التركيبة الدراميّة للفيلم، في شكل مفتعل!

2 – السيناريو المرتبك، ورخاوة الحوارات بين أبطال العمل، إلى جانب رخاوة أداء الممثلين وبرودته. وقد يمكن تبرير فتور أداء الممثلين، بأن الممثلين المحترفين المعروفين المقيمين في سورية، غالبيتهم مع نظام الأسد، والبقيّة الباقية تتجنّب المشاركة في العمل، خشية إثارة غضب النظام، باعتبار أن الفيلم يصنّف على أنه مع الثورة وضد النظام! لذا، استعان ملص بممثلين هواة، ما انعكس سلباً على حيوية الأداء وحركيّته والسياق العام للفيلم.

3 – استخدام المشاهد التعبيريّة، كمشهد انعكاس الصورة على الماء، وتعريض الصورة للارتجاج والتبدد، مع إضافة مؤثرات صوتيّة، بكثرة إلى درجة الملل، إذ سبق أن استخدم ملص هذه التقنيّة أثناء صوغ المشهد التعبيري في فيلمه «باب المقام» الذي أخرجه عام 2005. كما أن مشهد محاولة غالية – زينة، فتح باب موصد عنوةً، باليد والجسد والرأس (الدقيقة 75)، سبق أن استخدمه ملص قبل 30 سنة في «أحلام المدينة» عبر شخصيّة الطفل ديب (الدقيقة 115).

4 – باستثناء فؤاد وغالية ووالدها، كل أبطال العمل أدّوا أدوارهم ضمن منزلين، في دمشق وطرطوس. زد على ذلك، لم نجد أحداً من أبطال العمل، مشاركاً في تظاهرة أو اعتصام، يشير إلى تأييده الثورة السوريّة، بخاصة، الناشط السياسي حسين. علماً أن في المشهد الأول من الفيلم، أثناء وضع فؤاد باقة من الآس على ضريح السينمائي الراحل عمر أميرلاي، همس للقبر قائلاً: «كسرنا حاجز الخوف»!

5 – تكرار استخدام ممارسة الجنس بين المستأجرين، ضمن المنزل المشترك، في ثلاث حالات: الكاتب زرزور مع لارا، (مصممة الإعلانات)، فؤاد مع غالية، وحسين مع نوارا. علماً أن صاحبة المنزل متديّنة، زد على ذلك أن المناخ المحافظ الذي تتميّز به دمشق القديمة، لا يجعل الأمر على مثل السهولة التي تطالعنا في الفيلم! والسؤال: ما هي هذه الصدفة التي تجمع أشخاصاً ضمن منزل، غالبيتهم تنشط في الحقل الثقافي (مخرج سينمائي، نحّاتة، كاتب، مصممة إعلانات، ناشط سياسي)، وأصحاب أفكار وميول مشتركة؟!

6 – جاء العمل أحادي الجانب، بحيث تجنّب تناول رأي أو موقف أو ممارسات الموالين لنظام الأسد، ومنطقهم وحججهم في الدفاع عن النظام؟! ذلك أن إظهار تعامل الموالاة مع المعارضة، هو من صلب اهتمام السينما الموضوعيّة. وعليه، كان من المفترض أن يوجد شخص، على الأقلّ، ضمن المستأجرين في المنزل، له مواقف موالية لنظام الأسد، وانعكاس ذلك على طريقة تعامله مع شركائه في المنزل! فالانحياز للثورة، ومناهضة النظام المستبد، لا يعني التغافل عن دور وحجج وأداء الموالين له، وهم ليسوا قلّة، على صعيد النخب والعوام، بخاصّة في حقل الدراما والسينما السوريين! وربما ازدواجيّة الشخصيّة الموجودة لدى غالية، هي إيحاء أو إشارة نقديّة خافتة موجّهة إلى الكثير من النخب السوريّة، ممن يريدون التغيير، وليسوا مع الثورة على نظام الأسد، بكل ما لكلمة ثورة من معنى وآلام وعذابات ودماء ودمار. الذين يعيشون حالة فصام، تعبّر عن نفسها وفق مع وضد الثورة في آن. ومع وضدّ النظام في آن. هذه النوعيّة المرتبكة من البشر، يحلو لها العوم في المناطق الرماديّة، ولا تعتبر من مصلحتها اتخاذ موقف واضح وصريح، لا لبس فيه، مما يجري في سورية!

تصوير وطن معذّب

أيّاً يكن من أمر، فقد سعى فيلم «سلّم إلى دمشق» إلى تصوير جانب من حياة وطن معذّب، يتلظّى بنيران الحرب الأهليّة. وقد نجح إلى حدّ ما في مسعاه. ولكن، كأنّ ملص أراد القول، عبر فيلمه هذا: لم تصل شظايا الحرب الأهليّة بعد إلى داخل ذلك البيت الدمشقي الذي يسكنه شباب وشابات من مكوّنات الشعب السوري! إذ لا زالت العلاقات الاجتماعيّة بين سكّان المنزل، قويّة ومتينة، كأنّهم أسرة واحدة. ولكن الواقع هو خلاف ذلك تماماً! والصرخة الأخيرة التي يطلقها الفيلم في نهايته، عبر حركة مسرحيّة مفتعلة، هي: الحريّة، الحريّة من نظام الاستبداد، ومن الحرب أيضاً، تشي بأنه فقد الأمل في النظام والثورة في آن، ويريد وضح نهاية لهذه التراجيديا الكونيّة التي تعيشها سورية.

ولكن الخطاب السينمائي لملص في «أحلام المدينة»، و «الليل»، و «باب المقام»، كان أكثر جاذبيّة وغير مرتبك أو مشوّس وملتبس، قياساً بـ «سلّم إلى دمشق». وعليه، إذا كان الجهد الذي بذله ملص في «سلّم إلى دمشق»، وضمن الظروف والشروط التي تعيشها سورية، يستحق التحيّة والشكر، فإن في الإمكان اعتبار هذا الشريط، «خطوة للوراء» قياساً بأعماله السابقة، على عكس ما يقول الكثير من القراءات النقديّة التي أغرقت «سلّم إلى دمشق» بالمديح والإطراء، من دون أن ننسى أن محنة الشعب السوري والحرب الأهليّة التي يعيشها السوريون، هي أيضاً منحت دفعاً معنويّاً وإعلاميّاً لهذا الفيلم، وعززت رواجه.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى