صفحات الثقافةيزن الحاج

سماءٌ ملطّخةٌ بالهواجس

 

يزن الحاج

إلى بشرى ميّا.. نسمةً تُكمل نقص قوس “باب شرقي”

(افتتاحية شاميّة)

حين تتجول مساءً لتتأملَ شارع الانفجار الصباحيّ، لا تثقْ إلا بعينيك.

انسف كلَّ الصّور في الشاشات، وتنفسْ ما نسيه العابرون صباحًا من هواءٍ قبْل غيابهم.

ليس هؤلاء الذين تمّ إقحامُهم في المشهد الدمويّ، بل ذلك العابر صدفةً إلى خبرٍ لن يزيده اسمه أو صورته لونًا آخر في الشريط، أو خطًّا صارمًا في جبين المذيعة.

(ما قبل الافتتاحية)

أسوأُ القذائف تلك التي تشقُّ طريقها إلى الجسد والجدار بصفيرها المرعب.

لعلّها قذائف الهاون.

ما يزيد الأمر سوءاً (أو جمالاً لأصحاب النّزعات الانتحارية) هو أنّ موتك مرتبطٌ بأداةٍ لا تعرف اسمها.

أفضّلُ الموت الصّامت الذي لا يُربك الأحياء والأموات بصفيره.

(هامش)

ثمانية أشهر بعيداً عن بيتي في دير الزور الذي كان مُطوَّقًا بالقصف، دون أن أعلم ما حلّ به الآن.

تركتُ الكمبيوتر على وضع الاستعداد، والمجلد الثالث من أعمال شكسبير مطويًّا على قصيدة “فينوس وأدونيس” التي بدأتُ قراءتها قبل دقائق.

الكتب مبعثرةٌ كعادتها، والمنفضة تحتضن عقبين من سجائر “الحمراء الطويلة”، مجاورةً لفنجان قهوةٍ نصف ممتلئ. أغلقتُ باب الغرفة الأخرى (كنتُ أبقيه مفتوحاً لامتصاص ضغط الهواء بعد سقوط القذائف خوفًا على زجاج الشبابيك!). ألقيتُ آخر نظرةٍ على الصندوق الذي يضم ما تبقّى من نسخ مجموعتي “شبابيك” ومخطوط “مترٌ مربعٌ من الحنين”، دون أن أكلّف نفسي عبء النظر إلى الدفتر الصّغير الذي أخربش فيه أفكاراً لقصص قصيرة ومشروع رواية (معظمها محفورٌ في ذاكرتي، وما تبقّى لن ينال نوبل على أي حال!). أشعلتُ سيجارةً وخرجتُ بحقيبةٍ تضمّ قاموساً وكتاب سينما ومفكرةً تحوي شذراتٍ من أنسي الحاج وأربع علب سجائر.

الشوارع المقفرة التي صفعَتْني نسفتْ آمالي باليومين اللذين وضعتُهما مهلةً للرجوع، فيما كانت القذائف المتلاحقة تسدّ طريق العودة.

(مَتْن النّزوح)

/أرق/

يباغتكَ النّسيم في “باب شرقي”، فتنفضُ النّعاسَ الذي احتلّكَ في مطعم “نينار”.

ثلاثون ساعةً من الاستيقاظ، والدّقائق تمضي ببطء. “هو الأرق مجددًا”، تفكّرُ، ثم تشعل سيجارةً أخرى لتتابع كلمات نديمكَ الضاجّ بالحماس، وتحسده على نشاطه المرهِق.

تفترقان عند “باب توما”، لتمسي وحيداً مع بقايا نعاسك، وفُتات النّسيم الذي اختفى فجأةً.

ظلمةٌ غريبة في الحارات الضيّقة. يصفعكَ لهبٌ خفيُّ عند “القيمرية”، ثم تبدأ الرطوبة الخانقة. الأحجار السوداء التي تزخرف الأزقّة، مدفونة تحت ركام الرمال، وشذرات الصّخر المتكسّر من الجدران.

حفرٌ كبيرةٌ نسبياً في الشوارع تُدمي صور دير الزور المتشظّية في عينيك، وتُضاعف الرطوبة الغامضة.

“أنت بالقيمرية يا غبي”، تتمتم ثمّ تمسح الهواجس الغارقة في عرقك.

تباشر بروفات الاطمئنان، وأنت ملتصقٌ بالجدار منتظراً صافرةً ما يتلوها انفجار.

إنها الرطوبة مجدّداً.

تشعل سيجارةً أخرى لتصفية ذهنك، كي تفرّق بين إحساسَيْ الرّطوبة المتعانقين في ذاكرتك.

ليست رطوبة النهر (السّاقية المتعثرة بجانب الجامع الأموي ليست الفرات بالتأكيد).

إذاً هي رطوبة الدّوحة.

أربعة أعوام وأكثر مرّتْ على إحساس الرطوبة البحرية المقرفة في قطر. يومها، أنعشتَ صدرك باتصالاتٍ لكلّ النّساء في موبايلك.

تضغط (نجمة، 100، مربّع) في الموبايل، فيظهر رقم 235 ليرة على الشاشة.

يتراكم الاختناق مع اقترابكَ من مدخل سوق الحميدية، والشّارع الطّويل المؤدي إلى محطة الحجاز، المرصوف بالحرس.

مرارةٌ في حلقك. تبحث عن محل حلوياتٍ فلا تجد غبيًّا غيرك في الشارع.

“بلّشنا نتوحّم!”، تكتمُ ضحكتك المشروخة.

تصل إلى فندقك. العمّال يلعبون الطرنيب. تطلب قهوةً لتكتب قبل أن تنفجر.

صفحة الفيسبوك أمامك مقفرة.

يأتي الشاي.

“طلبنا قهوة يا معلّم!”

تعود للتمتمة، وكأنّ أحرفكَ تبخّرت مع آخر اختناقات الرطوبة، بتأثير جهاز التكييف.

/شذرات/

نظرةُ حقدٍ فاضحة بين عين اليمامة والفوّهة المصوّبة إلى السّماء.

هواءٌ خانقٌ يمرّ،

فتتعثّر اليمامة عن حافّة النافذة.

*****

سربُ حمامٍ مرتبك،

والطّير المرقّطُ يطعن سماء الشّام،

كندبة.

الأطفالُ تحته يكتمون نظراتهم كيلا تراهم فِراخه البرّاقة.

*****

كما لو أنّ الزّمنَ أصبح قميصاً رثّاً معلّقًا بمسمارٍ صدئٍ، على ركام جدار. تكفيه نسمةٌ عابرةٌ لتهيّج كل ذكريات الخيوط. يمسي الوقتُ أرجوحةً بين عقربين، يقطعهما عقربٌ ثالثٌ يطأ الرّوح مع كلّ انتقالةٍ بين ثانيةٍ وأخرى.

الهمسةُ، كالدّمعة، كالآهة، كالتّنهيدة. كلُّها محسوبةٌ بحذرٍ لئلا تختلس حصّة غيركَ من الهواء أو الضّوء.

/هذيان/

ليس الهدوء المعتاد هذه المرة.

ارتطمتْ نظرتُك بعينَيْ الحلاق العجوز قرب مقهى النوفرة. تربكُكَ دوماً عيون كبار السن في دمشق. الصرامة وشيءٌ من المكر في مزيجٍ غريبٍ، كغرابة خلوِّ الدرجات الممتدة من جدار الجامع الأموي إلى النوفرة.

لا زبائن تشتُمُهم في سرّكَ، لتَعَلُّقهم “بقشور دمشق”. لا أحد.. سوى عينين تبرقان كلما ارتفعت كفّه لتنفض الغبار عن كرسي الحلاقة العتيق.

طريق “القيمرية” يبدو ممتداً بلا نهاية. قطعة الكرواسان بيد ذلك الشاب تخفف وقع نبضات قلبك المتسارعة.

ثمة من أبقى محله مفتوحاً غير هذا العجوز.

تعود أدراجك، وتلج الدرب الثعباني قرب الأموي وصولاً إلى الحميدية.

شرطي المرور يطرد السيارات، فيما عنصر الأمن، بثيابه المدنية، يدخن بصمت. ليس الجسد الممشوق ما كشفه، بل العينان اللتان تبدوان مموّهتَيْن كبذلةٍ عسكريةٍ تلتصق برائحتهم.

حصان صلاح الدين أبله كعادته. عيناه الجامدتان تكشفان لك الطريق الممتدّة إلى محطة الحجاز.

تتابع تقدمك محاذرًا ارتطام النظرات، أو المشي السريع، وصولاً إلى العين الحمراء البعيدة لإشارة المرور.

(خاتمة)

رنّاتُ كعب جارتي تضبطُ إيقاع الوقت في كلّ شقّةٍ أنتقل إليها في جرمانا. مدينةٌ مثل ترانزيت للعابرين، يحكمها الكعب العالي.

الموظّفة تؤرّخُ لبداية القصف اليوميّ الصّباحيّ. عشر دقائق قبل الثامنة، ثمّ تتلاحق الثّواني رنّةً رنّةً حتى تمام الثامنة، فيستيقظ الطيّار النشيط.

أما الراقصة فتومئ بأن ثمة ليلاً كحولياً ملوّناً يمتد إلى الخامسة صباحاً. ومع وقت عودتها الذي يصبح أبكر فأبكر، أُدركُ أن الرّماديّ بدأ يحتلّ ألوان الليل، وأن الحياة العابثة تضمحلّ، وأعلم متأخّرًا أن جرمانا لن تكون استثناءً. ولأنني أعرف الأمر مسبقاً، ولأن سيناريو الجريمة جاهز: وداعاً جرمانا.

(استدراك)

تبدأ صباحكَ الاعتياديّ.

اليمامات الثلاث على الهوائيّ الناتئ من الشرفة المجاورة، “اللايكات” المؤجّلة على صفحاتٍ لحرية معتقلين، السنتيمترات العشرة المفتوحة من باب الشرفة لتخفيف وطأة السجائر المتعاقبة، الفارق في عدد الشهداء على شريط الموت المتحرك أسفل الشاشة، الشتيمة المبتكرة الصباحية الموجّهة للجميع،درجة لمعان أحمر شفاه المذيعات، والنسبة المئوية المتناقصة للتشاؤل قبل الانقلاب التدريجي لحرف اللام الأخير إلى ميم.

تعيد تقليب موجز الأخبار لتتأكد من شيءٍ وحيدٍ أخير: السجائر العشرون المبتسمة أمامكَ بعد تمزيق غطاء علبة التبغ الجديدة.

الأيام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى