صفحات سورية

سماء الشام وأرضها: لماذا الثورة؟

 


عمر أبو سعدة *

كشفت الصور التي بثتها وسائل الإعلام للتظاهرات في مختلف المدن السورية، على نحو جلي، الفقر والبؤس الهائل الذي تعيشه تلك المدن والقرى. يصحّ هذا في صور البيوت المزرية والطرق غير المعبّدة التي لا يمكن أن تنتمي بحال من الأحوال إلى القرن الحادي والعشرين، كما في الوجوه المرهقة لمتظاهرين أنهكهم الفقر وسحقتهم سنوات طويلة من الإذلال والاضطهاد الشديدين على يد أجهزة الأمن السورية.

عمل النظام السوري عبر سنوات حكمه الطويلة، اعتماداً على أيديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي ومؤسساته المختلفة، على تدجين شخصية السوريين. فالطفل يترعرع في منظمة «طلائع البعث» ثم يقضي مراهقته في ربوع منظمة «اتحاد شبيبة الثورة» ويتفتح وعيه السياسي في «الاتحاد العام لطلبة سورية»، ما يعمل على تثبيت شخصيته في أطر محددة تسمح للنظام بتأطيره والسيطرة عليه. وقد بدأت هذه الشخصية تأخذ ملامح محددة تمثلت في الانخفاض الشديد في تقدير الذات لدى معظم السوريين، وتدني المعايير الأخلاقية في التعاملات اليومية التي ظهرت آثارها الجانبية على شكل أمراض اجتماعية باتت منتشرة في سمات الشخصية السورية في شكل ملحوظ حيث يظهر عدد غير قليل من السوريين في صورة أشخاص مستهلكين، غير مبتكرين، فاقدين للقدرة على المنافسة، انتهازيين، منغلقين على ذاتهم، كارهين للآخرين. وتمحورت أقصى طموحات الشاب السوري في الحصول على مسكن أياً يكن، وحياة زوجية رتيبة، أي العيش في أدنى الحدود. في المقابل كانت شريحة صغيرة جداً من المنتفعين من النظام قادرة على تحقيق أي من طموحاتها بكل سهولة ويسر وكأنها احتكرت القدرة على الحلم في سورية، وهذا بينما أحلام معظم الشباب مؤجلة دوماً إلى زمن غير محدد.

وفي نهاية التسعينات وبينما استكان النظام إلى هذا الانجاز، كانت مؤسساته الحزبية تضعف وتفقد الكثير من سيطرتها، وازداد تمركز النظام على ذاته في دمشق وضعفت علاقته أكثر فأكثر بالمناطق الأخرى والشرائح الاجتماعية التي لا توافقه الرأي، مما دفعه إلى تهميشها وإهمالها. كل ذلك سمح لثقافة مختلفة أن تولد، هي ثقافة الهامشيين الذين يمثلون أكثرية السوريين. وترافق ذلك مع ظهور جيل جديد، جيل ملّ مشاهدة برامج التلفزيون الرسمي وقراءة الكتب البعثية وترديد الشعارات في المدارس الحكومية. وبدأ يحاول تطوير شخصيته مستخدماً أدوات جديدة ساعد عليها انتشار وسائل الاتصال الحديثة التي لم تكن تحت السيطرة الكلية للسلطة.

هذا الجيل كان ينفر من صورته التي فرضها النظام، وصار يبحث عن صورة مختلفة يواجه بها نفسه، ويتقدم بها من الآخرين. وجاءت الثورات العربية من تونس إلى مصر وليبيا واليمن لتستفز رغبة الشبان السوريين في التعبير عن أنفسهم بطريقة جديدة. ومع بداية الاحتجاجات وداخل تجربة التظاهر نفسها، بدأ السوري إعادة اكتشاف فاعليته التي غابت عنه زمناً طويلاً. شعر للمرة الأولى بأن صوته له قيمة حينما ينضم إلى أصوات الآخرين، وتأكد من أن قدراته على التعبير والابتكار أكبر مما كان يعتقد. ومن هنا بدأت علاقته بالشارع تتغير تماماً، وصار يدرك أنه هو المالك الحقيقي للمكان وليس النظام. وهكذا من مجرد مواطن هامشي يتبع صوتاً واحداً إلى انسان يتذوق معنى الفردية، بدأت معالم شخصية جديدة بالظهور. صارت الشخصية السورية تكتشف مجدداً معاني التحدي والإصرار والشجاعة مع الصور المبهرة لمتظاهرين يكررون النزول إلى الشارع على رغم الكلفة الثقيلة لذلك، وهي من الأعلى بين الثورات العربية.

الاحساس بالآخرين والشعور بالمسؤولية ظهر أيضاً من خلال شعارات التضامن التي رفعها الناس دعماً لبعضهم بعضاً، حيث رفعت بانياس شعارات لدعم درعا ورفعت حمص شعارات لدعم بانياس، وهكذا. وصارت مناطق كانت منسيّة حتى من السوريين أنفسهم، مثل دوما وحرستا وإنخل وجاسم وتلبيسة والبيضا وغيرها، تحتل شاشات الإعلام وصفحات الجرائد الرئيسة. وبدلاً من أحاديث تافهة في المنازل والمقاهي العامة، انطلقت أفكار جديدة للنقاش في كل مكان. هذا الحراك الهائل بدأ يحل تدريجاً محل الجو الرتيب والمحبط الذي كان يحتل الفضاء السوري قبل فترة وجيزة.

لكن الاكتشاف الأهم هو الخيال الذي يتمتع به المحتجون. ففي مقابل مخيلة النظام البائسة التي لا تعرف سوى استخدام الرصاص، بدت مخيلة المتظاهرين خصبة وحيّة على الدوام. فكانت تُبتكر شعارات جديدة مع كل يوم جمعة، وهذه الشعارات شديدة البلاغة والقدرة على مواكبة الحراك السياسي بوضوح وبساطة. وبينما ينتظر رجال الأمن في الأماكن المعتادة نفسها، يغير المتظاهرون كل مرة أوقات التظاهر وأماكنها، كما يغيرون طرق الهرب. وفي مقابل الخطاب الانشائي الأجوف للنظام الذي لا يزال يستخدم مفردات المؤامرة والخيانة والمندسين التي كررها على مدى سنوات حكمه، فإن المحتجين، وعبر الفضاء الافتراضي وفي الحياة اليومية، يبتكرون لغة حية مرحة تتهكم على مفردات النظام وتكشف زيفها وفجاجتها. وأمام تهريج المحللين السياسيين الرسميين، تخرج الأفلام التي يلتقطها المتظاهرون بكل حرفية وإتقان. وفي مقابل عنف «شبيحة» الأمن وهمجيتهم، ظهر تشديد المتظاهرين على السلمية والابتعاد عن العنف.

وبهذا نستطيع تلمس الإصرار العنيد للمتظاهرين على تمييز أنفسهم والقيم التي يحملونها عن القيم التي يحملها النظام وأنصاره. ومن الواضح أن هذه الثقافة المغايرة التي تطرحها التظاهرات باتت تنتشر يومياً وفي شكل متسارع، على رغم مئات القتلى وآلاف المعتقلين، كما لا تزال الأرقام الحقيقية غير معروفة بعد، في المدن السورية المختلفة.

وهكذا، فإن الثورة في سورية اليوم بقدر ما هي ثورة على الفقر والقمع الأمني، فإنها من دون أي شك ثورة لقيم الحرية والعدالة والكرامة والجرأة والابتكار التي كانت هامشية في ظل النظام المتمركز على الفساد والاستغلال والاضطهاد. وهي احتجاج لشباب سورية على الصورة التي جمّدهم النظام فيها، فكأنهم يريدون التعبير عن اختلافهم التام عن ذلك المواطن الخانع الممل الذي اعتاد النظام تقديمه في قنواته الرسمية كنموذج للمواطن الصالح، مؤكدين أنهم جزء من روح عالمية منفتحة ومُحبة ومتحررة. وأياً تكن السيناريوات التي ستأتي بها الأيام المقبلة، صار من الواضح أن مشاريع النظام أضيق بكثير من أن تلبي طموحات المتظاهرين المتزايدة، وأن مخيلة السوريين وأفكارهم تنطلق مسرعة تاركة وراءها نظاماً كهلاً مترهلاً لن يتمكن من اللحاق بها.

ليلة الخميس وعلى طاولة خشبية في أحد مقاهي دمشق العتيقة يجتمع أربعة شباب يتجادلون، يحلمون، ويخططون ليوم الغد، ثم ينظرون إلى سماء الشام الصافية مباشرة من دون أن يحجبهم عنها أي سقف، مهما كان ذاك السقف.

 

* كاتب سوري.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى