صفحات الثقافة

سمر يزبك في يوميات الموت السوري/ أحمد زين الدين

 

 

بعد نصّها السردي التوثيقي «تقاطع نيران» الذي سجّل إرهاصات الثورة السورية وبوادرها الشعبية، تقتحم الكاتبة والروائية السورية سمر يزبك بوابات الحرب والنار في بلدها لتكون الشاهدة على القتل، من خلال «رواية» تسجيلية جديدة بعنوان «بوابات أرض العدم» (دار الآداب). رواية تقوم على تجربة ميدانية، وعلى شهادات الأهالي والناشطين والمقاتلين والمعتقلين السابقين، وعلى حكايات متناسلة متذررة على كل لسان، من النساء الى الصبية والشباب والعجزة وكل من عاش معمودية النار، والنزوح الملتبس بشعور الذل والانكسار. حكايات يرويها الجميع كلّ بدوره لتصنع منها ملحمة الإرادة والصمود. وتنحو الى مضامين سياسية وفكرية تبحث فيها عن معنى الانتماء والهوية والوجود والعدالة. ومعنى ان يبقى السوري، على رغم جنون الدماء، متشبثاً بحقله وبيته.

في بداية رحلتها الطويلة، تتلمس يزبك الحياة في منطقة ريف إدلب وقرى الشمال السوري، لا سيما سراقب وكفرنبل، وتكتشف النبض الحيّ لهؤلاء المواطنين الصابرين على مصائبهم ومعاناتهم اليومية تحت قصف الطائرات ومدافع الدبابات، وفقدان أحبتهم وجيرانهم. وتنصت الى حكايات لا يكلّ رواتها، بعدما عرفوا مهمة سمر يزبك الصحافية، عن اسماعها المزيد منها. وتلحّ عليها احداهن ألا تحذف كلمة مما قالت، وأن تنقل الى العالم الخارجي ما تسمع. وتصرّ ألآء على أن تروي لها كل يوم حكاية عن موت صديق أو جار. كأنّ ثمة منافسة على سرد كل ما يحصل. سرد يتحوّل الى ضرب من الكاثرسيس (التطهير) بين موت وموت، خصوصاً عند الأرملة التي فقدت زوجها، والأم التي فقدت ابنها او ابنتها. والأخ الذي فقد أخاه. حكايات عن مآسي الحرب ورعونة جنود النظام وإجرامهم. وعن مظاهر الموت وطقوسية الشهادة، والتشبّث بالحرية المضرّجة بالدماء.

في كل مرة تتسلّل الكاتبة الى الشمال السوري عبر البوابة التركية، ترسم صورة عن معاناتها، وهي بين المهربين والعصابات والجنود على طرفي الحدود، معاناة لا تقل صعوبة عن العيش تحت سقف مهدّد في أي لحظة بالانهيار على رؤوس ساكنيه.

 

غاية مزدوجة

غاية الكاتبة مزدوجة، فهي ترمي علاوة على التوثيق والتصوير ونقل الأخبار وكتابة اليوميات عن الحياة في فضاء الأمكنة المحررة، إلى المساهمة في تأسيس منظمة أهلية في الشمال السوري، وإقامة مشاريع متواضعة خاصة بالنسوة لتمكينهن من تحسين أوضاعهن المادية والمعرفية، ومساعدتهن على تعليم أطفالهن. مهمة الكاتبة مهمة وطنية لتظهير الثورة على حقيقتها وإبراز عثراتها وشوائبها وضحاياها، وسرد حكاياتها ومفارقاتها للعالم الخارجي الذي يفتقد الصورة الحقيقية عمّا يمور في داخل رحم الثورة من معاناة تراجيدية.

المشهد الطاغي في الرواية هو إيقاع الحرب بكل ما يحمل من دمار وعبث وقتل وأوجاع. بيد أن هذا المشهد، على فظاعته، لا يحجب أو يحول دون سماع نبض الحياة اليومية وإيقاعها المعتاد. فالعلاقة مع الموت ألفها القاطنون في قراهم وبلداتهم. وتحوّلت الى جزء من طبيعة عيشهم، حيث صارت المقابر تنبت بين الناس. «وتحوّل التراب مجزرة بعد مجزرة حفراً مثقوبة بأجساد السوريين». وعلى رغم القصف والقتل والحصار والذعر، بقيت النساء «جميلات، نظيفات، طعامهن لذيذ، اطفالهن تبدو عليهم علامات الاهتمام»، وإنّ مقاومين من امثال عبد الله وميسرة ومحمد وعلي وأحمد وأشخاص كثر يهزأون بالموت بسخريتهم من أنفسهم.

ومع أنّ طائرات النظام تحتلّ السماء، فإن انشغالات الحياة اليومية تظل شاخصة وملحاحة. إذ خلال دقائق يختفي أثر الحديث عن القصف، ويعود الحديث عن أنواع الخضار واللحوم المتوافرة في الأسواق. وهذا العيش في حضن الموت الذي ترسم الكاتبة دوائره الجهنمية، إنما يذكرنا ببيت المتنبي الشهير: «وقفتَ وما في الموت شكّ لواقف/ كأنك في جفن الردى وهو نائم». كذلك فإن «تاناتوس» إله الموت الإغريقي في لحظات الرعب والقلق والقتل هذه، يعانق «إروس» إله العشق الإغريقي، لتكتمل معهما دورة الحياة والموت، متجلية في عبارة موحية همستها في أذن الكاتبة إحدى نساء سراقب التي أنجبت طفلين، رغم أهوال الحرب، قائلة: «الموت الكثير يأتي بالحب الكثير».

إعادة تشكيل

تراقب سمر يزبك، بحسها الوطني في كل مرحلة من مراحل ذهابها وغيابها، منطقة إدلب ومقدار التغييرات والتحوّلات التي طرأت على أذهان الناس وعلى تصرفاتهم واهتماماتهم وآرائهم السياسية، فتلحظ تراجع النقاء الثوري الذي بدأ به النهوض السلمي الى خانة الانتهازية والعـــسكرة والتطييف. فالكاتبة التي تتحاشى نقل صورة طـــوبـــاوية ودعائية عن الثورة، تشير الى ان كل شـــيء يتبدل في ملامح سورية عســكرياً ونفسياً واجتماعياً. ولم يعد في الإمكان الحديث عن سورية الواحدة.

في رحلتها الأولى كانت الهيمنة للجيش الحر. اما اليوم فقد حلت مكانها الكتائب الإسلامية المتطرّفة التي تفرض نفوذها العسكري والفكري على الناس. لم تعد الثورة على سوية واحدة، بل يُعاد تشكيلها بناء على تمويلها من الداخل او الخارج. ومن رحلة الى أخرى اكتست ملامح الثورة سمات هجينة. حيث غدا الولاء يقوم على التبعية للجهات الممولة، وأضحت جهات الإغاثة تتغلغل في لُحمة النسيج الاجتماعي وسُداه. انشطرت الثورة الى نصفين: المخلصون والمدافعون عنها بأجسادهم وأرواحهم وأموالهم، من جهة، والانتهازيون والسماسرة وتجّار الحروب، من جهة ثانية.

تتخذ سمر يزبك موقفاً مناهضاً من «المجاهدين» الغرباء الذين يتسربون الى البلدات السورية حتى لتكاد تصرخ في وجوههم: ما الذي تفعلونه في بلدي؟ لكنّ صديقها الصحافي اللبناني فداء عيتاني، الذي كان يرافقها في رحلتها، يتكهن بأن هؤلاء «المجاهدين» ليسوا حالة طارئة، بل سيمكثون في سورية، ويصبح لهم نفوذ قوي وعنيف. وهذا ما حصل بالفعل.

رأت الكاتبة في وجوه المقاتلين الأجانب ملامح مشابهة لملامح شبيحة النظام السوري. وباعتبار انها لا تفرّق بين عدمية الحكم الاستبدادي وعدمية الانتحارية الإرهابية، فهي تأسف لتحوّل الثورة الديموقراطية إلى ثورة مذهبية. في هذه الرحلة يحتدم النقاش بين الكاتبة وبعض قادة الكتائب الإسلامية من السوريين، ومنهم أبو وحيد الذي يعتقد ان الغرباء سيعودون بعد التحرير الى بلادهم. في حين ترى سمر ان «وطنهم هو عقيدتهم الدينية». وفي هذه الحالة بالذات، تعاني سمر يزبك من محنة مكبوتة هي صعود المشاعر الطائفية إلى العلن. واضطرارها إلى حجب هويتها المذهبية (العلوية) عن الكثير من الناس الذين تلتقيهم، أو حتى تؤازرهم في عملهم. فهي حريصة على الانتماء الى الوطن، وليس الى الشعور المذهبي الذي أشعل فتيله المقاتلون الغرباء وإستراتيجية النظام. ولعل هذه النزعة المذهبية كانت مكتومة داخل اللاوعي السياسي للناس قبل ان تحين فرصة ظهورها.

ما كانت تختلف فيه سمر يزبك عن سائر الصحافيين الذين رافقتهم ليس مذهبها، الذي لم تفصح عنه الا للمخلصين من اصدقائها، كي لا يكون موضع احراج لها ولهم. بل هو تشبثها بوطنيتها السورية، وحماستها لإسقاط النظام. هو تحوّلها من صحافية او كاتبة إلى مناضلة وطنية لتطهير الثورة من أدرانها، ومن بينها فشو نزعة التطرّف القاتلة، وإعادة الصفاء الثوري إليها، وتكريس إجماع السوريين حولها. وهي غير مضطرة للانخراط في هذه المهمة الصعبة، لولا عزيمتها على تخليص بلدها من الاستبداد السياسي والاستغلال الديني. وما سجلته من احداث لا يحمل سمة حيادية على ما درج عليه الإعلاميون والمعلّقون الأجانب. بل ان كل كلمة في روايتها التسجيلية موسومة بالتعاطف العميق مع الثائرين، ومواساة الناس المصابين. هي ملتصقة بنسيج مجتمعها السوري، ومنتمية إلى ثورته المهدّدة بين حين وآخر، لسوء الحظ، بالسقوط في مهاوي الحرب الأهلية.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى