مراجعات كتب

سمر يزبك و«تسع عشرة امرأة ـ سوريات يروين»: حكايات بطولية للنساء في مواجهة جرائم الحرب/ هاشم شفيق

 

لم أكن أتوقع أن أشهد أو أقرأ أو ألمس عبر مئات الوثائق والمُدوَّنات الشخصية والدولية، ولمنظمات عمل إنسانية، جرائم ارتكبت بحق البشرية والأبرياء العزل، من شيوخ وأطفال ونساء، مثلما يرتكبها النظام السوري بحق شعبه الأعزل، هذا الشعب الذي يستحق أن يحيا حياة كريمة، حرة، غير مقيَّدة، وغير محكومة بأنظمة قمعية دأبت على منافسة النازية وأخواتها من أنظمة حكم ديكتاتورية، على التمرُّس والتمكن والإبهار في وسائل الإبادة الجماعية. قلت لم اقرأ ما يماثل هذا النظام دموية، سوى تنظيم «داعش» وشبيهاته، لا بل تجاوز النظام السوري بقوة المحق التي يمتلكها الأدوات البدائية لداعش، تلك التي تعمل بالسيف لقطع الرؤوس، فإذا كان «داعش» يقتل واحداً أو خمسة بالسيف، فالنظام السوري الذي بزّه بالطرق الإجرامية، يعمل بالقنابل الفراغية وبراميل البارود، والقصف بالطائرات والمواد الكيميائية، كغاز الخردل والسارين، ليقتل الآلاف بوحشية وبدم بارد.

لم أكن أتوقع بعد قراءتي لوثائق كتاب «في سوق السبايا» للشاعرة دنيا ميخائيل الموصلية، عن ما يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية» والمعروف بـ «داعش» أن أقرأ وثائق دقيقة وموجعة للمشاعر والأحاسيس والمواجد، وجارحة على نحو ملموس وجلي للأعماق الإنسانية، مثل كتاب الروائية السورية ابنة الساحل، سمر يزبك «تسع عشرة امرأة ـ سوريات يروين». وهو كتاب وثائقي، جريء ومدعوم بالبراهين والأدلة الدامغة والملموسة، كونه يكشف بالتفاصيل اليومية، الدقيقة، بشاعة النظام، المتميز بهاجس القتل والترويع والتعذيب العادي للعامة، من السوريين. فالنظام البعثي المبني على أنهر الدم وعلى مقاطعات من أشلاء الضحايا، والمتفنِّن بصنوف المحو والمحق والتحطيم للروح البشري، لا يهمّه سوى الإبادة الشاملة والمتكاملة والممنهجة من أجل البقاء في الحكم، حتى لو قتل من الشعب ثلثيه، حتى لو هجَّر الملايين، حتى لو هدَّم كل المرافق العامة، وحطم البنية التحتية، وهدّ البيوت والعمارات والمآوي فوق رؤوس ساكنيها، متناسيا التاريخ، وحرقة الشعوب التي ستقف لهم يوماً بالمرصاد، لتحاسبهم على الصغيرة والكبيرة، بحق الشعوب التي ظلموها ودكوا أسوارها ومدائنها، لتكون رماداً، وها هي المدائن السورية الجريحة تئن وتنزف ولم يبق منها سوى الأنقاض، سوى الرماد الذي يحرس الأمكنة.

تقدم الكاتبة سمر يزبك لكتابها بمقدمة ضافية، تُبيِّن فيها مسعاها، وأوقاتها في رحلة الآلام هذه، كاشفة وعبر جهد مائز وحس خلاق وشاق ومضن أيضاً في تدوين المعلومة والشهادة والوثيقة، حكايات بطولية لتسع عشرة امرأة من السوريات، اللواتي عملن مع بدء الثورة السورية كناشطات في تنسيقيّات الثورة، يُنسِّقن مع الثوار منهاج الحركة الثورية، وطرائق تحرُّكها وعملها الميداني. فهنَّ كنَّ في الغالب، في المواجهة وأمام لحظات الموت، وما أكثرها تلك اللحظات الدائرة عبر سبع سنوات من عمر الثورة التي انتكست في المآل، من خلال المؤامرات والتدخلات المحلية والإقليمية والدولية، ومن خلال الحط من انطلاقتها وتشويهها عبر وسائل إعلام النظام البعثي النازي، ومحاولاته الدؤوبة في بث الفرقة بين المذاهب، وترويع الأقليات بالقتل من قبل قوى مجهولة، أو من قبل تنظيمات إسلامية متطرِّفة. وهذا ما حصل فعلاً حين سمح النظام السوري بتسويق «داعش» إلى مناطق الثوار، ومن ثم الانسحاب منها، بغية تسهيل الدخول للقوى الإسلامية المتطرِّفة، مثل «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» وغيرهما من الكتائب التي وجدت في ذلك فرصة لتسويق مشاريعها وأفكارها الجاهلية والمظلمة. هذا الكلام تكشفه المدوَّنات النسوية في هذا الكتاب، إذ عبره يسلط الضوء على ألاعيب النظام العفلقي، في الترويج للخوف والذعر والموت، عبر عملائه المحليين، وتذويب الجميع عبر نشطائه الدمويين، بفكرة النزاع المذهبي الذي لم يكن موجوداً ابّان انطلاقة الاحتجاجات السلمية السورية. هذا ما يرويه بعض النسوة بروح عالية، وبمسؤولية مثالية، فيها الكثير من حس العدالة والشهامة، والأخوة الإنسانية التي بشرتْ بها أولاء النسوة، والبعض منهن ينتمي إلى عائلات الطائفة العلوية، ومن ضمنهم المؤلفة نفسها، يروين بحس الحقيقة وعينها، مظالم النظام السوري الذي لم يكن يوماً عادلاً مع أحد.

وقد اعتمدت المؤلفة في كتابها المنهج البسيط، والواضح والسلس، لكشف جرائم النظام السوري، وكذلك مالت إلى المواءمة بين التنوّع الجغرافي للمناطق السورية، فثمة نساء من الساحل السوري، من طرطوس واللاذقية، وكذلك هناك نسوة من حمص وحلب وحماة والرقة والسويداء ودير الزور ودرعا ودمشق وغوطتها وريفها المحيط، وثمة تنوع وتعدد في المهن، تلك التي شغلتها الناشطات في عملهنّ اليومي واللوجستي، الصعب والخطر والمرعب، طوال سنوات الثورة، حتى خُيّل لي بعد هذا العمر، وعبر قراءاتي المتعدِّدة والكثيرة، وعيش بعض تجارب الحروب، أن النساء بشكل عام، هنّ أقوى وأكثر صلابة وثباتاً وصبراً وجَلَداً وإرادة وتحدّياً من الرجال، وذلك ما يثبته هذا الكتاب لي، وغيره من الكتب التي تتحدث عن الفاشيات والطغيان والعوالم النازية في العالم.

مجازر وموت الأطفال من الجوع

تروي الراوية الأولى سارة، وهي من معظمية الشام، الأيام الأولى للتظاهرات التي انطلقت في محيطها، فشاركت النساء في حراكها السلمي، ولكن عناصر الأمن وقوات حفظ النظام تصدّتْ للتظاهرات وقمعتها بقوة ووحشية، حيث اعتقلوا في تلك التظاهرة 1500 متظاهر، بكت كل نساء المنطقة على الشباب، ولكن رغم ذلك، المظاهرات استمرت، «أنا كنت أعمل وأدرُس في الجامعة في آن واحد»، وتضيف سارة: «كتبنا نحن اللافتات الخاصة بالتظاهرات، طالبنا فيها بإسقاط النظام وجاء أهل داريّا للمشاركة معنا فيها، اشتغلنا على ضوء الشموع وطبعنا المناشير التي تشرح طبيعة الثورة وخرجنا في تظاهرات ضخمة، حتى حصلت مجزرتان ارتكبهما الأمن والشبيحة وهم يعتقلون ويذبحون. المجزرة سميت مجزرة السكاكين… قتلوا عائلة ادريس ذبحاً، ثم قتلوا أربعة شباب أمام أمِّهم التي سمِّيت خنساء المعظمية، وأحرقوا البيت، كنت أرسل هذه التفاصيل كلها إلى الإعلام… على أطراف المعظمية، كنا نهرب من الدبابة والطائرة، قتل مئة وخمسون شخصاً، كانت الإعدامات ميدانية، يُجمع الناس ويُرمون بالرصاص، وأحرقتْ بيوت كثيرة، ومات تسعة أطفال من الجوع».

وشهدت سارة مجزرة ثالثة، من خلال عملها كمسعفة للجرحى، «مجزرة الكيمياوي في المعظمية بتاريخ 21 ـ 8 ـ 2013 رأيت رضيعاً مات جميع أهله، أجريت له تنفساً صناعياً، ذعرت الناس يصرخون في حالة هستيرية، حتى رأيت ما هو أفظع من ذلك، أتت امرأة وشدتني من يدي، كانت مذهولة، أظنها أصيبت بالجنون، أمسكت بيدي بقوة وقالت: انظري هذه ابنتي، وهذا أخي وهذه ابنتي الأخرى مريم وهذا زوجي، ثم أشارت إلى مجموعة من الموتى، لم تكن تبكي، بل طلبت مني التحديق فيهم، ثم قالت: وهذه أمي انظري ما أجملها، انظري إليهم إنهم ينامون فقط».

تروي الراوية الثانية التي اعتقلت في بيتها عبر وشاية، صنوف التعذيب المبتكر والنازي، هذا غير العبث بجسدها واللعب به في المناطق الحساسة، سُجنتُ مع العاهرات والسارقات وقالوا للسجينات أنتن أشرف منها، و«صاروا ينادونني باسم آخر، أميرة خليف، وكنت أرفض ذلك وأظل بعد جولات التعذيب التي لا تتوقف، ليلاً ونهاراً، أرددُ بأني مريم ولست أميرة خليف، كان الشباب المعتقل يتغوّط ويتبوّل في لباسه». إحدى طرائقهم في التعذيب تسمى الشبح، وهي التعليق من السقف مربوطة اليدين ويتم بعد ذلك التعذيب، كان المحقق يضربني ويقول: «يا شرموطة بدك حرية» بعد التعذيب يضعوني في ماء مملح، كانوا يريدون إجباري على الظهور في التلفزيون والقول بأني إرهابية، وكنت أرفض ذلك كوني ناشطة في حراك سلمي، لقد ربطونا بالسلاسل مثل العبيد، وجعلونا نحن النساء نمر أمام رجال عراة: كل ذلك جرى في قسم أمن باب المصلى».

فرع فلسطين

الراوية الرابعة زين، وهي من حلب، اعتقلتْ وعُذِّبتْ وصارت في السجون ترى الشباب معلقين كالذبائح، وعمدوا أمامها إلى اغتصاب شاب، وأجبرني الجلاد وهو يضربني بالسوط أن «أحدق في وجهه وهو يغتصب، رأيت شباباً فقدوا عقولهم، كان أحدهم طبيباً، عذبوه بالكهرباء، جُنّ تماماً، وعندما عرفت أنني في فرع فلسطين، قلت أنني سأموت. كنت أعرف الأهوال التي تحصل فيه، ومن يخرج منه حياً يكون الأمر معجزة، أطعمونا أكلاً مليئاً بالشعر والأظافر، مرة جاءوا بمعتقلة من درعا اغتصبت في فرع 215 كانت حاملاً، حاولت إجهاض نفسها فضربت بطنها بعنف وأصيبت بنزيف، سقطت على الأرض لا تتحرك. أحد الشباب مات تحت التعذيب لأنّ المحقق ضرب رأسه بباب زنزانة الحديد، سمعتُ صوت كسر رأسه، ظل يضربه حتى سقط الشاب أرضاً، وسمعتُ صوت غرغرته قبل أن يموت، وتسرَّب دمه من تحت باب زنزانتي، كانوا يضربون رؤوس الشباب بجدران الممرات، وبأبواب الحديد، كانت جدران الممرات كلها بقع دم من رؤوس الشباب».

اغتصاب حامل حتى الموت

الراوية السابعة وهي رولا من حي كرم الزيتون في حمص، وهو حي غالبية سكانه من العلويين، تقول رولا: «إن أجهزة المخابرات تلاعبت فعلا بالسُّنَّة والعلويين، وفي حي كرم الزيتون ارتكبت مجزرة، في 12ـ 3ـ 2012. ورأيت بيوتاً على مد النظر مدمرة ومحترقة، كان الخراب لا يوصف… لقد اختفى ما يقارب من خمسة وتسعين ألف شخص، الشبيحة هم الذين فعلوا ذلك، عرفت لاحقاً من أحد أقاربي أن هناك مكتباً مهمته تنظيف الأمكنة التي سيدخلها الجيش، هؤلاء لم يكونوا من الشبيحة التقليديين، كانوا مدرَّبين على القتل… الرجالُ الذين يرتبطون بالمكتب والمرتبطون بالأجهزة الأمنية هم من ذبحوا الناس».

الراوية الخامسة عشرة عليا، وهي من معرَّة النعمان، تقول: «أمي عاشت حوادث مجزرة حماة عام 1982، وروت لي ما حلّ بصديقتها في البيت المجاور، كانت جارتها حاملاً، اغتصبتْ من قبل قوات سرايا الدفاع، وظلت تنزف حتى ماتت، وجارتها الأخرى، كان لديها طفل وحيد ورضيع، خبأته في إحدى خزائن المطبخ حتى لا يقتله رجال سرايا الدفاع، لكنه بكى، فسمعوا صوته، وقتلوه برصاصة في رأسه، تردِّد أمي هذه الحكايات وهي خائفة حتى الآن».

سمر يزبك: «تسع عشرة امرأة ـ سوريات يروين»

دار المتوسط ـ ميلانو 2018

279 صفحة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى