صبحي حديديصفحات سورية

سمير قصير، شهيدنا

 


صبحي حديدي

أستأذن شهداء الإنتفاضة السورية في اقتراح ضمّ شهيد لم يسقط على ثرى درعا أو الصنمين أو اللاذقية، ولا في أيّ من مدن وبلدات وقرى سورية الثائرة اليوم، بل خرّ صريع مفارز الإغتيال في بيروت؛ وأعني المؤرخ والكاتب والصحافي اللبناني سمير قصير (1960ـ 2005)؛ الذي، في كلّ حال، ينتمي إلى سورية من جهة والدته السيدة ليلى دميان، ابنة طرطوس.

وأعيد التشديد، هنا، على يقيني الشخصي بأنّ استهداف قصير بُني أيضاً ـ وإلى جانب أسباب لبنانية شتى ـ على ربطه الصائب، والشجاع تماماً، بين استعادة الديمقراطية اللبنانية وتطويرها، واستعادة الديمقراطية التي عرفتها سورية في مراحل عديدة على امتداد تاريخها الحديث، قبل وقوع البلاد أسيرة استبداد حزب البعث سنة 1963. المطلوب، إذاً، لم يكن ذلك اللبناني، الديمقراطي، اليساري إجمالاً، الناقد للنظام الأمني، إسوة بالأنظمة الطائفية والإقطاعية والعائلية، الداعي إلى قطيعة صريحة مع الماضي المريض الفاسد المتهالك، فحسب؛ بل، أيضاً، ذلك اللبناني الذي بات يرى الصلة بين شعبين واستقلالين وديمقراطيتين: في لبنان، وفي سورية. ومن نافل القول انّ النيل من مدير سابق للأمن العام في لبنان، لجهة فساده وموبقاته وفضائحه، لم يكن سوى تقليب للصفحات الأولى من كتاب سوف تفضي صفحاته التالية إلى فساد وموبقات وفضائح ضابط الأمن السوري السابق… سواء بسواء!

وفي آخر تعليقاته على الأوضاع السورية، وهو مقال نُشر بعنوان ‘الخطأ بعد الخطأ’، كتب الراحل: ‘الصحافيون الأجانب المخضرمون الذين يتدافعون إلى دمشق مع اقتراب موعد مؤتمر حزب البعث، سيجدون بالتأكيد أن الكثير تغيّر في سورية بالقياس مع عهد حافظ الأسد، وخصوصاً لجهة حرّية التعبير. لكنّ المقارنة لم تعد وسيلة مقبولة لتقويم السياسة السورية بعد نحو خمسة أعوام على اعتلاء بشار الأسد سدّة الرئاسة بالتوريث. فمن يتابع أنباء سورية بشكل متواصل لا يمكن أن يعنيه، بعد مرور كلّ هذه الأعوام، أنّ عدد المعتقلين السياسيين أدنى بكثير مما كان قبل عقد من الزمن. وما يعنيه في منتصف سنة 2005 هو أنّ هذا العدد عاد إلى التزايد. وما يعنيه أيضاً، في منتصف سنة 2005، هو أنّ القيّمين الحاليين على الحكم لا يزالون يرفضون فتح باب الحوار الوطني مع معارضيهم، والمصالحة مع مجتمعهم’.

وفي فقرة لاحقة، كتب قصير: ‘كنّا اعتقدنا أنّ الحكم السوري استخلص العبر مما جرى له في لبنان، جراء أخطائه المتراكمة، وأنه سوف يخرج من الهزيمة التي تلقاها بعزم على انتهاج سياسة توفّر عليه هزيمة أكبر، فيبادر إلى تغيير جذري في أدائه يحول دون وقوع مواجهة مع شعبه تكمل ما عاناه في المواجهة مع الشعب اللبناني. وكان تحديد موعد انعقاد مؤتمر حزب البعث قد أوحى أنّ الإصلاح الذي ما برح النظام يتكلم عنه سوف تكون له أخيراً بداية. ولكن عبثاً. فما تفيده الإعتقالات الأخيرة هو أنّ الإصلاح عند أهل البعث لا يعني القبول بالرأي المعارض. والتحولات الإقليمية الهائلة، من العراق إلى لبنان، لا تدفعهم سوى إلى التهويل من الخطر الأمريكي، من دون التفكير لحظة بالوسائل الأنجع لدرء هذا الخطر’.

واختتم الراحل بالحديث عن سلسلة التراخيص التي قررت القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم أنها لم تعد بحاجة إلى موافقة أمنية مسبقة (وبينها، مثلاً، افتتاح صالونات الحلاقة، ومحلات النوفوتيه، ومحلات العصرونية، وأفران الصفيحة والمعجّنات)، فقال: ‘فعلاً، تغيّر الكثير في سورية العهد ‘الجديد’. فإذا كانت حرية الصفيحة والنوفوتيه تطلبت خمسة أعوام، فكم سيتطلب إلغاء الموافقة الأمنية المسبقة على صنع السياسة؟’… ألا يبدو، في ضوء خطاب بشار الأسد مؤخراً، وسيرة الإصلاحات، ومقترحات المؤتمر القطري العاشر… أنّ قصير يتحدّث اليوم، سنة 2011، وليس قبل ستّ سنوات؟

في مقال سابق بعنوان ‘حين تغامر سورية… بالديموقراطية’، كتب قصير:’كان لافتاً أن تمرّ الذكرى الثالثة لرحيل حافظ الأسد من دون كبير ضجة في سورية وفي لبنان معاً. حتى وارثه في رئاسة الجمهورية العربية السورية وفي القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي نسي الإشارة الى هذه الذكرى في المقابلة الطويلة التي بثتها قناة ‘العربية’، مع العلم أن ذكرى موت الأب هي أيضاً ذكرى بداية عهد الابن. ولم يعرف المشاهد إذا كان مردّ هذا السكوت بقاء طيف حافظ الأسد مهيمناً، أم ابتعاده عن واقع السياسة السورية’. كان كلام أخفّ وطأة من هذا، وأقلّ شجاعة وعمقاً، قد أودى بحياة الصحافي اللبناني سليم اللوزي، صاحب مجلة ‘الحوادث’، مطلع العام 1980.

وأجدني، استطراداً، أستذكر تعبيراً طريفاً، وسليماً تماماً، كان قصير قد نحته خصيصاً لوصف طبيعة الشراكة بين النظام الأمني اللبناني، وسيّده النظام الأمني السوري: ‘اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللا مسؤولية’! وكما لم يتوفّر لديّ سبب واحد يجعلني أنزّه ضابط أمن لبنانياً، سابقاً أو راهناً، من دم سمير قصير؛ لم يتوفّر لديّ ـ بالمقدار ذاته، وعلى وتيرة فهم الأشغال التي توجب أن تنخرط فيها تلك الشراكة الأمنية اللبنانية ـ السورية، سبب واحد يجعلني أنزّه ضابط أمن سورياً، سابقاً أو راهناً، من دم الشهيد؛ شهيدنا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى