صفحات الحوار

سنان أنطون: الذاكرة الجمعية بحاجة إلى حراسة

 

 

علياء تركي الربيعو

يعتمد دور المثقّف على موقفه من القوى السياسية والاجتماعية السائدة في الحيّز، الذي ينشط فيه. أما النشر، فهو في النهاية سوق تحكمه اعتبارات الربح من ناحية، وتصوّرات استشراقيّة لا تتزحزح إلا بصعوبة. هذا ما يراه الشاعر والروائي العراقي، سنان أنطون، الباحث والأستاذ الجامعي، والذي نال جائزة سيف غباش-بانيبال للترجمة الأدبية من العربية إلى الإنجليزية عن ترجمته روايته “وحدها شجرة الرمان”، إضافة إلى إصداره مؤلفات كثيرة تُرجم العديد منها إلى لغات أخرى كالألمانية، النرويجية، البرتغالية، والإيطالية، نذكر منها: ديوان شعر بعنوان “موشور مبلل بالحروب”، رواية “إعجام”، رواية “يا مريم” والتي رُشحت لجائزة البوكر العربية ووصلت للقائمة القصيرة عام 2012. وروايته الأخيرة “فهرس”، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لهذا العام. هنا حوار معه”

* ترى بأنه يجب ألا نعوّل كثيراً على المثقفين، وبأن توقعاتنا بخصوص دور المثقف عموماً هي توقعات غير واقعية. برأيك، ما هو دور المثقف اليوم، وكيف نعرّفه؟

قلت هذا قبل سنوات في سياق الإجابة على سؤال يتعلّق بخيبة الأمل من الكثير من مواقف المثقفية “الكبار”، بُعيْد اندلاع الثورات العربية وضرورة ألا نعوّل عليهم بالذات. يعتمد دور المثقّف دائماً على موقعه وموقفه من القوى السياسية والاجتماعية السائدة، في الحيّز الذي ينشط فيه. ويعتمد بالطبع على بوصلته الأيديولوجية. وهناك بوصلات عاطلة وأخرى تشير إلى الاتجاه الخاطئ! طبعاً هناك أسطورة سخيفة سائدة يرددها الكثيرون ممّن يظنّون أنّهم تحرّروا، بقدرة قادر، من الأيديولوجيا، ويحسبون أنّهم في فضاء خارجي وهذا هراء. لا يتسع المجال هنا للاستفاضة. يكفي أن نتّفق على أن هناك مثقفاً يمارس دوراً نقدياً راديكالياً ويؤمن بضرورة تغيير العالم، وآخر يعيد إنتاج الخطاب السائد ويدافع عن البنى والقوى التي تعيد إنتاج الظلم واللامساواة، ويهلل للعائلة الحاكمة أو القائد الملهم! وهذا هو الفرق الأساسي.

*كيف نقرأ ملامح الأدب العراقي الإبداعي، في مشهد متعدد العرقيات والمذاهب كما هو الحال اليوم، وهل وصلت الطائفية الاجتماعية إلى المدونة الأدبية؟

أولم يكن العراق دائماً متعدد الأعراق والمذاهب؟ الطائفية، كخطاب، وممارسة، غزت بلدان المنطقة منذ سنوات لأسباب معقّدة، والعراق ليس استثناء. الطائفية وصلت إلى المدوّنة الأدبيّة وحاولت شخصيّاً التعامل معها في رواية “يا مريم”. لقد وصلت الطائفيّة إلى النقد الأدبي والمراجعات وتصنيف الأدباء بحسب المذهب! ولو فحصنا هواء المنطقة في أي موضع لوجدنا فيه نسبة من الطائفية!

*في أعمال أدبية عراقية، صدرت مؤخراً، نرى تركيزاً على فترة ما بعد الغزو الأميركي للعراق، بينما يتم تجاهل حقب سابقة قبلها والتأثيرات التي طاولت النسيج الاجتماعي في العراق، بعد حرب الخليج وما لحقها من حصار اقتصادي وأوضاع سياسية دراماتيكية مرت بها البلاد، ما السبب برأيك؟

لقد شهدت فترة الغزو وما بعده تحوّلات هائلة في المجتمع العراقي: غزو واحتلال عسكري، تفكيك مؤسسات دولة بأكملها، وتأسيس نظام سياسي طائفي هو الأكثر فساداً في العالم، وإطلاق عنان المليشيات، ومن ثم حرب أهليّة دامية، وتفشّي الإرهاب والموت اليومي المجّاني، ثم سقوط أجزاء من البلاد في قبضة داعش وتهجير مئات الآلاف. فمن الطبيعي أن يحاول الكتّاب التعامل مع كل هذه الصدمات والتحوّلات الكارثية لأن هذا واقعهم وحاضرهم وتاريخهم القريب. قد يستعجل البعض في الكتابة وهذه مشكلة بالطبع. لكن لا أتّفق معك بخصوص تجاهل الحقب السابقة وتأثيراتها. هناك عدد لا بأس به من الكتاب الذين تشتبك نصوصهم مع فترات سابقة.

*بحكم إقامتك، فترة طويلة، في الولايات المتحدة، كيف ترى استقبال الأعمال العربية المترجمة في الأوساط الثقافية الغربية؟ وهل اختلفت المواضيع التي تثير اهتمام القارئ الغربي عن الشرق سواء المتخيل أم الواقعي؟

يختلف وضع الأدب المترجم في الولايات المتحدة عن نظيره في أوروبا كثيراً. نسبة الأدب المترجم في الولايات المتّحدة هي 3٪ فقط من مجموع ما ينشر من أدب كل سنة. وللأدب الأوروبي الحصة الأكبر. وما يتبقّى من هامش للأدب العربي (أو الفارسي وحتى التركي، باستثناء الأسماء المكرّسة) صغير جداً. النشر في النهاية سوق تحكمه اعتبارات الربح من ناحية، وتصوّرات استشراقيّة لا تتزحزح إلا بصعوبة، خصوصاً بعد الحادي عشر من أيلول. هناك دور نشر صغيرة رائعة ودور نشر جامعية تنجح في نقل ما يمكن نقله من الأدب العربي، لكن الخيارات ليست دائماً موفّقة بالضرورة. وهناك فراغات كبيرة لا بد من سدّها.

*في روايتك “فهرس” عملت كثيراً على نبش الذاكرة الشخصية، بتفاصيل وصور يومية بات الكثير يتهرب من تذكرها في ظل الخراب الذي تعيشه مدننا العربية، ما السبب؟ وهل في هذا نوع من حراسة الذاكرة؟

أنا مهووس، ومنذ سنوات، بموضوع فقدان الذاكرة الجمعيّة وبمحوها ومحو التاريخ في الأنظمة الاستبدادية وبعد الحروب وتفتت المجتمعات وتدمير نسيجها الاجتماعي وهويتها. الذاكرة الجمعية بحاجة إلى حراسة دائماً، وخصوصاً في زمن الخراب، لأنّها يمكن أن تنهب وتدمّر وتضيع. مسألة اختيار مواضيع بعينها أو إهمالها يعتمد على رؤية الكاتب وقناعاته ومشروعه.

*يلاحظ أنك تهتم في أعمالك الروائية بعنصر الحكاية والتسلسل الطبيعي للزمن وبلغة تبتعد عن الشعرية، رغم أن بداياتك هي شعرية.. أليس مطلوباً من الرواية العربية أن تغامر أكثر على مستوى الشكل؟

لا أتّفق معك. ليس هناك تسلسل خطّي أو طبيعي البتّة. مثلاً، في روايتي الأولى “إعجام”، الزمن دائري ومفتّت، لأن النص يعتمد على أوراق يوميّات سجين تم العثور عليها، بدون تنقيط، عند انتقال السجن إلى مجمّع جديد. وأحد أبعاد النص هو محاولة ممثّل السلطة “ترتيب” الأوراق وتنقيطها والسيطرة على معانيها المراوغة، وإدخالها في نسق متسلسل. ولا ينجح في ذلك بالطبع. أما في روايتي الأخيرة، “فهرس”، فهناك مغامرة على مستوى الشكل ومحاولة لاستيعاب أجناس كتابية عديدة ومستويات لغوية مختلفة والتحاور مع نصوص تراثيّة ونص فلسفي لبنيامين. وللرواية ثلاث نهايات، وإحداها هي بداية كتابة الرواية. وهناك، بحسب القرّاء والنقّاد، لغة شعرية في “وحدها شجرة الرمّان” وفي “فهرس” أيضاً. الأمر يعتمد على القراءة.

*ألا ترى أن تخلل رواياتك حوارات باللهجة العراقية قد يحد من تلقيها في العالم العربي الذي ليس على معرفة باللهجة العراقية؟

الشروط الجمالية هي الأهمّ بالنسبة لي عند التفكير بالروايات وكتابتها. التلقّي موضوع مهم بالطبع، لكنّه لا يؤثّر على خياراتي. لا يمكن لي أن أتخيّل شخصيّات رواياتي تتكلّم بالفصحى، وكأنّها في مسلسل تاريخي. الأغلبية الساحقة من ردود الفعل التي تصلني من القرّاء والقارئات تشير إلى استمتاعهم بالمحكية العراقيّة في الحوارات ولا صعوبات كبيرة. مثلما أستمتع أنا، كقارئ، بقراءة حوار بالدارجة المغربية، مثلاً، في رواية. وحتى لو استعصت عليّ مفردات وتعابير هنا وهناك، فهذا ليس عائقاً البتّة. وهذا التنوّع في المحكيات وحتى في المحكيات داخل البلد الواحد ثراء.

*هل تكتب الشعر في الفترة نفسها التي تعكف فيها على كتابة عمل روائي؟ وكيف تشعر بالانتقال بين هذين الشكلين التعبيريين؟ وهل الشعر أشبه بـ”استراحة” بين روايتين مثلاً؟

كتابة عمل روائي تعني الدخول في عالم آخر والعيش مع شخصيّات وأحداث لفترة طويلة والتفكير بها. لا يعني هذا عدم كتابة الشعر أبداً. أنا أحاول، قدر الإمكان، المزج بين الأشكال والأجناس. وهناك مقاطع شعرية، خصوصاً في الرواية الأخيرة “فهرس”. الكتابة تظل عمليّة منهكة عموماً وصعبة، بغض النظر عن الشكل.

*قمت سابقاً بترجمة أعمالك بنفسك ومنها روايتك “وحدها شجرة الرمان”، كيف هو الأمر حين تكون الكاتب والمترجم في آن معاً؟

كتبت في مقدمة الترجمة أن وجود المؤلف والمترجم في جسد واحد يسهّل التحاور والتجادل حول الخيارات. كما أنني سمحت لنفسي بمناورات وتغييرات بسيطة لا أسمح لنفسي بها حين أترجم نصوص كتاب آخرين. كانت تجربة رائعة عموماً لأنني كنت قد شعرت بحزن وفراغ بعد إنهاء الرواية واشتقت إلى شخصياتها، وكانت تجربة الترجمة مناسبة للعودة إلى شخصياتي ومرافقتها إلى لغة أخرى.

*كيف تتصور سيكون وضع الثقافة في ظل إدارة ترامب، وأي موضوعات سنراك تشتغل عليها؟

لقد أصدر ترامب خلال ستة أيام سلسلة من القرارات التنفيذيّة التي ستؤثر سلباً على حياة الملايين من الذين يعيشون داخل الولايات المتحدة من المهاجرين والأقليّات والنساء، وأخرى ستوقف التمويل الفدرالي للكثير من البرامج والمؤسسات المهمة في قطاعات الخدمات والمعونات والثقافة أيضاً. لكن تبعات فاشية ترامب ستؤثر على العالم بأكمله، وقد تقود إلى اضطرابات وحروب جديدة. سأستمر بكتابة مقالات نقديّة في الصحف والمواقع بالإنكليزية؛ وهو ما كنت بدأته في حقبة بوش، قبيْل غزو العراق واحتلاله واستمررت به. وأعتقد أن الجامعات ستكون إحدى ساحات مقاومة المد الفاشيّ، والوقوف ضد شيطنة المهاجرين والمسلمين، وأيضاً محاولة بناء تيار يساريّ جديد من قبل الطلاب ومن يدعمهم من الأكاديميين. أما بالنسبة لمشاريعي الروائية القادمة فكلها تتعلّق بالعراق وبتاريخه القريب والبعيد. ولا مكان لترامب فيها.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى