صفحات الحوار

سنان أنطون: سورية كالعراق … والاستبداد مزّق النسيج الاجتماعي

 

 

مايا الحاج

بعد حوادث العراق الأخيرة وتهديد المسيحيين وتهجيرهم من مدنهم، عادت رواية «يا مريم» ليتردّد صداها بين القرّاء والمهتمين بالشأن الثقافي العربي، باعتبارها من أبرز الروايات التي تطرح موضوع الطائفية الدينية بهذه الجرأة. وعلى رغم أنّ الزمن الذي قضاه كاتبها في الولايات المتحدة بات يُعادل ذاك الذي قضاه في العراق، ظلّ سنان أنطون مشدوداً نحو موطنه الأصلي حتى كأنّه كلّما ابتعد عنه، صار أكثر التصاقاً به. وهو يعتبر نفسه نسيج وطنه الإنساني والثقافي الممتدّ في الشتات. يحضر العراق في أعماله كافة الموزعة بين ديوان شعري «ليل واحد في كلّ المدن»، وثلاث روايات هي: «إعجام»، «وحدها شجرة الرمان»، «يا مريم» (وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر). هنا حوار معه:

> حملت روايتك «يا مريم» (2012) نظرة تشاؤمية إلى الواقع العراقي بعدما كانت النهاية المأسوية من نصيب طرفي الصراع في الرواية، يوسف (ممثلاً الجيل القديم المتأمّل) ومها (الجيل الجديد اليائس). إلّا أنّ التطورات الأخيرة في العراق بدت أكثر كابوسية مما في الرواية. كيف يمكن مخيلة الكاتب أن تستوعب كلّ هذا الشرّ؟

– الواقع العراقي كان وما زال كارثياً، وهذه المفردة وغيرها من جاراتها على الرف قد لا تكفي ولا تفي الواقع حقه. لا أعتقد أن النظرة التي حملتها «يا مريم» كانت تشاؤمية بمقدار ما كانت واقعية وصريحة. فالذي يحاول سرد كابوس ما، أو بعض تفاصيله، لا يكون متشائماً، خصوصاً إذا كان عمر الكابوس يُقاس بالسنوات لا بالساعات. وقد تكون التطورات الأخيرة هي الأبشع والأعنف، لكنّ بذورها أو ربما جذورها مغروسة في الماضي القريب. الكابوس «يتمدد» إلا أنه موجود منذ سنوات. أما عن استيعاب كل هذا، فهذا هو التحدي الأزلي أمام المبدع. ليس سهلاً بالطبع ولكنه ممكن، في كل زمن وبعد كل كارثة.

> بعد دخول «داعش» العراق وتهجير المسيحيين من مدنهم، عادت «يا مريم» إلى الواجهة… هل تعتبر روايتك جاءت كصرخة كشفت المسكوت عنه أم إنها إنذار جسّد توقعاتك لمرحلة أشدّ مرارة وإيلاماً؟

قد يفرح الروائي حين تتحقق نبوءة إحدى شخصياته، لكنني حزين جداً لما يحدث للعراقيين، مهما كان تصنيفهم. «داعش» هجّر المسيحيين والإيزيديين والشبك وذبح مئات العراقيين الشيعة، وأعدم عراقيين سنّة رفضوا تنفيذ أوامره في الموصل. إنه يفتك بالجميع. «يا مريم» رواية، وكأيّ نص أدبي ستنتج قراءات وإسقاطات مختلفة. ربما فتحتْ «يا مريم» نافذة، كانت موصدة ولم يتمّ فتحها، لنطلّ منها إلى غرفة من غرف البيت العراقي الكبير. وأصغتْ إلى جدل السرديات المتناقضة والذاكرات المتخاصمة، ولم تتهيّب من الكتابة عن موضوع الطائفية الشائك، والتي أصبحت حقيقة واقعة، لكنها تختفي في معظم النصوص الأدبية لأسباب شتى ويغدو الواقع مؤمْثلاً.

> كتبت «يا مريم» تحت تأثير تفجيرات كنيسة سيدة النجاة في بغداد، فهل أوحت لك صور تهجير المسيحيين من الموصل بعمل روائي جديد؟

– في البداية كانت رواية «يا مريم» تبحث عن البيت والعلاقة بالمكان من خلال شخصية يوسف، الرجل المسنّ الذي يرفض الهجرة، ثم تطورت القضية إلى ما هو أكثر بعد الهجوم على كنيسة «سيدة النجاة». كنت قد قرّرت قبلها ألّا أكتب عن شخصيات وأجواء مسيحيّة، لكي لا يتم الربط مباشرة، ببساطة وكسل، بين الرواية وبين ديانة عائلة الكاتب الواضحة من الاسم، كما يفعل كثر، للأسف! لكنني عدلت عن ذلك حين شعرت بأن لا أحد سيكتب حكاية يوسف ومها. أذكر هذا لأوضّح أنّ على الروائي ألّا يُحْصَر أو يحصر نفسه في «خانة» ما، وهكذا كانت روايتي الثانية «وحدها شجرة الرمان» عن واقع لم أعشه شخصياً ولم أكن قريباً منه.

أحزنتني أخبار تهجير العراقيين المسيحيين من الموصل والإيزيديين من سنجار وغيرهم من غيرها. كلّ هذا المحق والمحو من الجغرافيا والتاريخ والوجود يستدعي تدوين الحيوات والحكايات. ثمة دائماً أفكار. لكنني أكمل الآن رواية كنت قد بدأت وضع هيكلها عام ٢٠٠٤ لكنني وضعتها جانباً وعدت إليها قبل سنة.

> تخلص في روايتك «وحدها شجرة الرمان» إلى أنّ الحياة تستمر على رغم كلّ الصعوبات، متخذاً من شجرة الرمان التي تشرب مياه غسل الموتى لتنتج ثماراً طيبة مثلاً على ذلك. فهل يُمكن وسط هذه المعاناة العراقية أن تستدلّ على كوّة أمل؟

– الحياة تستمر. صانعو الأمل هم العراقيون الذين يواصلون الحياة ويصنعونها كل يوم في قلب الجحيم. هم النخيل الذي يحاول أن يحرس البستان ويديمه، أو ما سيتبقّى منه. وهم أشجار رمان عنيدة لأنهم يورقون ويزهرون في قلب الموت.

> بعضهم انتقد «يا مريم» حين صدورها لكونها تصوّر نهاية مفجعة يعيشها مسيحيو العراق بين القتل والتشريد، علماً أنّ أهل العراق يعانون جميعاً من تسلّط القتلة والإرهابيين فيه. كيف تُفسر هذه المفارقة، أو ربما المغالطة؟

– قد ينطلق موقف كهذا من عدد من الافتراضات الإشكالية. فأن يكتب المرء رواية تتمحور حول جماعة بعينها لا ينفي معاناة جماعات أخرى، ولا يحتكر المعاناة لهذه الجماعة فحسب، لأن الرواية نص أدبي وليست موسوعة أو مسحاً شاملاً لمجتمع ما. وليس مستغرباً أن تثير رواية عن الطائفية ردود فعل طائفية بامتياز. أما أنا فأرى إلى رواية «يا مريم» كحكاية عراقية، شخصياتها الرئيسية مسيحية، وليست حكاية مسيحية!

> تقول في روايتك «وحدها شجرة الرّان»: «بغداد كانت سجناً كبيراً يمكن التجوّل فيه بحرية، والآن صارت سجوناً متلاصقة تحرسها الميليشيات. سجّان يحضن سجّاناً، وبأسوار كونكريتية عالية»… ألا تعتقد أنّ هذه الحال باتت تنطبق على معظم الدول التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي؟ وهل أثبتت التجربة العربية أنّ الديموقراطية لا تليق ببلادنا التي اجتاحتها العصابات المتشددة بُعيد إقصاء الديكتاتوريات؟

– كلا، وضع العراق يختلف لأنه نتاج غزو واحتلال عسكريين أعقب ديكتاتورية وحروباً طاحنة وحصاراً اقتصادياً مدمّراً. وتم تفكيك الدولة وبناء نظام جديد ودولة مهلهلة تأسست فيها الطائفية، ثم شهد البلد حرباً أهلية دموية والآن هو مهدد بالتفتّت. قد يكون وضع سورية مشابهاً لوضع العراق في مآلاته. لكنّ البلدان الأخرى في وضع مختلف.

نحن نتحدث كثيراً عن الثورات وقلّما نتحدث عن الثورات المضادة التي شنتها وتشنّها الأنظمة والقوى الرجعية لتحجيم المدّ الثوري وتغيير اتجاهه وتشتيت زخمه. اللحظة الآنية هي بنت الماضي وهكذا يجب أن نقرأها. الطغاة والنظم الاستبدادية وسياساتها هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. الأنظمة الاستبدادية هي التي تغوّلت أمنياً واقتصادياً وخنقت المجتمع، وهي التي خاضت الحروب وفتحت الباب أمام التدخّل الأجنبي، ومزّقت النسيج الاجتماعي. فهل يكون الديكتاتور الذي يقتل مئات الآلاف من أبناء شعبه ويقصف مدنه أكثر «رأفة» من عصابات تقطع الرؤوس؟ هذه الأسئلة تعيد إنتاج خطاب يحاول ترسيخ فكرة بسيطة: على المواطن أن يسكت ويقبل بالنظم الاستبدادية والطغيان، فالثورات لا تقود إلا إلى الخراب. ترى من المستفيد من ترسيخ هذا الخطاب؟

> أنت تعيش في الولايات المتحدة منذ سنوات، لكنّ كتاباتك مغمّسة دائماً برائحة العراق وهمومه. هل يمكن الغربة أن تزيد إحساس الإنسان بوطنه؟

– قبل حوالى شهرين وصلت إلى النقطة التي يتساوى فيها الزمن الذي أمضيته في العراق (٢٣ سنة) مع ذاك الذي أمضيته خارجه بالضبط. وهي محطة مهمة للمهاجرين كان قد نبهني إليها بعض أصدقائي من المخضرمين، والشباب أيضاً. وقبيل اقتراب هذا الموعد خيّل إليّ أن علاقة المهاجر بوطنه ليست خطيّة بكل تأكيد، أي أنّه لا يبتعد عنه بمرور الزمن، بل العكس. ولكن كيف؟ فكّرت بالنجوم والكواكب ومداراتها. فقد قرأت أخيراً عن اكتشاف كواكب هائمة، لكنها أحياناً تدخل في مدار حول نجم ما وتستقرّ في حركتها. ربما يبدو بعض المهاجرين في مدار الوطن (مهما كان تعريفه ومهما كان متخيّلاً) وكأنهم يبتعدون بينما هم، في الحقيقة يقتربون. أجدني أقترب أكثر من نفسي ومن ذاكرتي العراقية كلما مرّ الزمن. لكنّ الأمر يعتمد، في النهاية، على تكوين الإنسان المعرفي ورغباته وهمومه. فهناك من ينقطع ويبتعد أو يجبر عليهما. أنا أتابع أخبار العراق في شكل يومي وأنا جزء من نسيجه الثقافي والإنساني الممتدّ الآن في الشتات، فليس غريباً أن أظل أكتب عنه.

> كتّاب عراقيون معروفون يكتبون من داخل العراق، وآخرون لا يقلّون أهمية وشهرة يكتبون من مدن مختلفة في العالم. فهل يصحّ القول إنّ كتّاب الداخل يُبدعون بالصمود، بينما يُبدع كتّاب الخارج بالحنين؟

– ثنائية الداخل والخارج تصبح في كثير من الأحيان تبسيطيّة واختزالية، وتُستغل في اصطفافات معيّنة ذات أبعاد أو أهداف سياسية. لا شك في أن الظروف الحياتية التي يعيشها زملاؤنا في الداخل كارثية بكل المقاييس. إنها ظروف يصبح الإبداع بذاته فيها انتصاراً. ولا شك في أن الوجود في الخارج والداخل، ولفترة طويلة يفرض، بمرور الزمن، شروطاً وخيارات معينة ومقاربات مختلفة. لكنّ تضاريس الأدب العراقي متنوعة وخرائطه معقدة. وليس بالحنين وحده يحيا كتّاب الخارج!

> يبدو أن الرواية سرقتك من عالم الشعر، فهل الرواية هي أكثر قدرة على التعبير عن مواقفك تجاه قضايا وطنك الإنسانية والاجتماعية؟

– لم تسرقني، قد تأسرني لمدة معينة، قبل أن تعيدني إلى الشعر. كتبت عدداً من النصوص الشعرية في السنتين الماضيتين وأتهيأ لجمعها في ديوان جديد أرجو أن يصدر مطلع العام المقبل. لست مع المفاضلة بين الأجناس، لا أعرف ما إذا كانت الرواية بالضرورة أكثر قدرة على التعبير. فهناك قصائد قصيرة يتبلور فيها تاريخ بأكمله. الشعر، كما يقول ويليام وردزورث «خلاصة المعرفة البشرية».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى