صفحات سورية

سنة أولى ثورة


آية الأتاسي

سنة مرت على أول خفقة قلب و رعشة حرية, ما زلت أذكر أصابعي و هي ترتجف و تكتب لأول مرة كلمة حرية , كلمة كالسحر, كتبتها فأحسست  بجسدي  خفيفاً كالفراشة و بخدر لذيذ في أصابعي سرى  حتى مجرى دموعي و طفى فوق بحيرة عيوني الراكدة. وكأن أربعين سنة ونيف كنت  مخلله فيها  باليأس و الخوف, في انتظار هذه اللحظه, لحظة انعتاق الروح  و انتزاع لاصق الإستبداد ,الذي كمم أفواهنا و حبس أنفاسنا و أحصاها.

قبل عام …بدأنا نحن جيل سنوات القمع, رويداً رويدأ,  نتعرف على أنفسنا من جديد و نسمع صوتنا لأول مرة يلامس السماء و لاينكسر,  بل  يعاود الخروج و اقتفاء الأثر  في شيء أشبه بالإدمان و لذة الحب الأولى.

قبل عام… بدأنا نبحث عن نحن في مرآة الأخر و الأخر فينا…لنكتشف  أن غرباء صاروا لنا أصدقاء و أصدقاء تاهوا و لاذوا بالفرار…و بدأ كل منا يحدد من جديد احداثياته و خطوط تماسه بهذا الوطن. فعالم ما بعد الثورة لا يشبه ما قبلها بشيء, كل ما حولنا يدور على وقع الثورة و ينبض بها,  ومعها بدأت مرحلة إعادة النظر وترميم الأنقاض في كل ما يتعلق بالحب و الحياة, و معنى الوطن و الغربة. و بدأ الأصدقاء يتساقطون كأوراق الخريف الصفراء و بدأ أخرون يزهرون كبراعم الياسمين البيضاء, و كثيرون بقوا في المنطقة الغائمة, نتجاهلهم عن قصد و لا نراهم, حتى لانضطر للإستماع لهم  يوماً وخسارة ما بقي بيننا من مودة و صداقة…

البداية  كانت جميلة تشبه بدايات قصص الحب و الغرام, كل شيء كان بطعمة سورية خالصة, شجاعة شباب  يواجهون الرصاص بصدور عاريه ويهتفون سلمية… سلمية , و أغاني  تلف الشوارع و الأرصفة و  تصل القلب بلا استئذان … رقص مع الموت و إحتيال على الحياة موسيقا و طرباً…رسوم كاريكاتوريه تعري بشاعة الجلاد و تخلد الضحية…فيديوهات تهزأ من كذب النظام و ألاعيبه و تبرهن أن الفكاهة فعل مقاومة وانتصار….بهرتنا الثورة و أبنائها و فاجائنا هذا الإبداع الكامن و تلك المواهب المدفونه في أقبية الديكتاتورية و قبورها…تصالحنا مع أنفسنا و تصالحنا مع  سوريتنا و انتمائنا. ولأول مرة صار الإحساس بأننا سوريون مصدر فخر و اعتزاز, فسورية عادت لنا و لم تعد ملكاً لآل الأسد, سوريه الأم عادت لتعطف على أولادها و تحميهم. و أبنائها الذين تاهوا و تهجروا …سجنوا أو هربوا… أعياهم الرحيل و أعادتهم الثورة ملتاعين  و نادمين على كل لحظة غضب من وطن أو عتب عليه…

وبدأت الثورة يوم بعد يوم تنضج و تتعرج, و بدأ النظام يفقد السيطرة عليها, فازداد عنفاً ووحشية و بدأت ألة القتل تهرس أجساد الثوار و تلتهم لحوم الصغار نيئة…بدأ حمام الدم  السوري يملأ المدن و الشاشات…دم يلتصق بوجوهنا و ذاكرتنا و لا يغادرنا حتى في المنام, دم قاني لأطفال يتكومون بالألاف على أبواب جنة ,باتت تضج بهم و بألامهم. عائلات كاملة غادرت الحياة في عمليات إبادة جماعية لا تميز بين أم و أب و أطفال, و لا يغيب عن  ذهني صورة الطفل الصغير المذبوح و بيده كمشة من شعر أمه , و قد تعلق به يبحث عن ملجأ أخير يلوذ به  من سكين الجزار….

أفواج من الشهداء تعبر كل يوم السماء, الشهيد و ورائه الشهيد في سلسلة للموت لا تنقطع ,الشهيد القادم يحمل نعش شهيد اليوم و يزفه على وعد اللقاء عند الله, حيث لا يموت الشهداء بل يحيون عند ربهم و يرزقون… فيض للدم و فيض للحزن و الألم… و كأن لولادة الحلم آلام مخاض و أوجاع علينا أن نعيشها لنصبح قادرين من جديد على الفرح و الحياة..

جدران الخوف التي بنوها و علو البنيان,سقطت و لن تعود…و نحن لا نملك غير الإستمرار, فالثورة طريق باتجاه واحد أي لفته أو عودة للوراء هي محاولة انتحار. لا خيار أمامنا سوى   الصمود والإستمرار رغم قسوة الحرية و مرارتها في كثير من الأحيان . فلوكان الخلاص سهل المنال لما سكت شعبنا كل هذه السنين على الظلم, و أجل فعل الثورة والإحتجاج مرات, لإدراكه بفداحة الخسائر وارتفاع كلفة الإنعتاق من الطغيان!!!

و لن يستطيع هذا النظام مهما تفنن بالقتل و التشويه و الإذلال, أن يعيد الثائرين لحظيرة الرضوخ و الطاعة, فمن ذاق طعم الحرية مرة لن يتوب عنه يوماً, و من عاش تجربة التظاهر لن يغادر الشارع ابداً.

سيتابع هذا الشعب العظيم ثورته وحيداً … في عالم يتفرج على ذبحه اليومي, مكتفياً بالشجب و الإدانة و بدون أية صحوة ضمير… سيتابع يتيماً… أمام تنكر كثيرين له و لشرعية مطالبته بكرامته و حريته… فثورته في عرفهم مؤامرة, وثواره  عصابات مسلحة و ارهاب,  و أرضه مجرد ساحة صراع. و كأنه محكوم علينا نحن من دون شعوب العالم بأسره أن  نبقى عبيد للطغيان, و عرابين تقدم على مذابح المقاومات و التحالفات.

 لقد تجاوزت هذه الثورة بعمر لا يتجاوز السنة, حدودها الضيقة و صارت ايقونة و رمز انساني ,  ففيها تختزل كل ألام الشعوب و معاناتها و بها تقاوم أبشع صور انتهاك كرامة الإنسان و أدميته… فقد أصبحنا  نحن السوريون, و بالإذن من الفلسطينين, شعب الفاجعة و النكبة و نحن من سيفتح أبواب الخلاص, وعلى أجسادنا ستعبر شعوب هذه الأمة عتبة التحررو الإنعتاق.

 إنه عام مضى و لكنه عمر كامل, عشنا فيه الحياة بكل تناقضاتها و جنونها و جمالها,  و تعلمنا أبجدية الحياة و الموت و الوطن…

 و صار للمواطنة وجه أحمد البياسي رافعاً هويته في وجهنا و فاضحاً كذب النظام و ادعائاته

 و صار للكرامة صوت محمد احمد عبد الوهاب المختنق, وهو يعلن إنسانيته امام حيوانية المستبد ووحشيته

 و صار للأمل ابتسامة  طفله حمصية  صغيرة تلتقط دموع السماء  لتروي ظمأ وطن

وصار لنا ثورة لم نخترعها, بل تخترعنا كل يوم من جديد….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى