صفحات الثقافة

سنة ماراثونية باتجاه مدينة حمص/ فجر يعقوب

 

 

عرّف جان كوكتو الفيلم السينمائي بقوله: هو الخروج من الصالة شرط عدم الاتفاق على رأي واحد على الفيلم الذي عُرض للتو، ويكون لكل واحد فينا رأيه الخاص فيه. يبدو الاختلاف هنا فضيلة في رأي المخرج والكاتب الفرنسي، ليس بوسع أحد إنكارها لمجرد توسع الهوة في الاختلاف. وإن كان الأمر كذلك في فرنسا التي كانت خارجة للتو من «مستنقع» الحرب العالمية الثانية، والأحرى من مستنقع النازية الذي وجدت نفسها فيه بعد سقوط باريس بيد الألمان، فكيف هو الحال إذن مع المستنقع السوري الغارق في أتون حرب مدمرة منذ أربع سنوات، وليس هناك بصيص أمل بقرب انتهائها، أقله في المدى المنظور؟.

الفيلم الأبرز

قد تبدو المقارنة مجحفة، مع حالة ذهنية صرفة حكى عنها صاحب «الصوت الإنساني»، لكن يمكن تمريرها في سياق استعادة الفيلم السوري الأبرز في نتاجات عام 2104 الذي يقف على الضفة الأخرى من المعادلة السورية التي تزداد تعقيداً يوماً عن يوم، ونقصد به فيلم «ماء الفضة»، لسيماف وئام بدرخان وأسامة محمد. الفيلم الذي صوّرت الجزء الأكبر منه الشابة الكردية بدرخان في مدينة حمص، ووضع له أسامة محمد علامات النص المرئي، وبعض اللمسات المونتاجية، عن طريق الاستعانة بكل ما أتاحه «اليوتيوبيون» عبر الفضاء الرقمي الذي لم يعد يلتزم بحدود، ويذكّر فيه بوصوله إلى باريس يوم الانتصار على الفاشية. القول واضح تماماً، وما من داع لشرحه، وإن كان يحاول التغطية على «جحيم» اليوتيوب المستعار في مقابل تركيبات بصرية مؤثرة شحن لها محمد طاقاته التخييلية من مكان وجوده الحالي في باريس.

الفيلم عرض في أمكنة كثيرة، ونال جوائز، وسيُعرض بالتأكيد في دول عربية وأجنبية. هو جزء من الحالة السينمائية السورية التي تتشكل في الخارج، وليس واضحاً بعد ما إذا كان الشغل على الذاكرة السورية في جحيم المعادلة المركبة شقاءً يكاد لا يوصف وسيستمر في التبليغ عن حالات مماثلة، إذ شهد هذا العام إنجاز فيلم «العودة إلى حمص» للمخرج طلال ديركي، وفيه يتتبع حكاية شابين مشاركين في الأحداث السورية، من دون رؤيا واضحة تنفعه على الأقل في عدم الانقياد للحالة الإسلاموية المتشددة التي ظهرت في نهاية فيلمه، بغض النظر عن بعض الأحداث المهولة التي تمكنت كاميرا ديركي من اصطيادها. وهو نال جائزة مهرجان ساندانس الفائت.

الحالة الوثائقية التي ازدهرت هذا العام سمحت أيضاً بظهور أفلام أخرى، مثل «مسكون» للواء يازجي، وفيه ترصد المخرجة السورية وهو فيلمها الأول، تسعة مواطنين سوريين يستعدون لإخلاء بيوتهم والتوجه إلى لبنان للعيش الموقت. وفيلم «بلدنا الرهيب» لزياد حمصي ومحمد علي الأتاسي الذي يحكي شيئاً من سيرة المعارض السوري البارز ياسين الحاج صالح. كما سجل حضوراً لافتاً فيلم «الرقيب الخالد» للشاب زياد كلثوم. ربما التقنيات السيئة التي استخدمت في تصوير هذا الفيلم، وإصراره على «توريط» أبطاله في حكايات لم تكن تخطر ببالهم، ساعدا على الحد من تأثيره، وإبقائه في دائرة أفلام الهواة، وأن تمتع بفكرة مهمة، كان يمكن أن تشكل جسماً درامياً لفيلم مهم، وحصل على بعض الإثارة من خلال خوضه في عالم مجند في الجيش يصور بكاميرا هاتفه النقال عوالم وأسرار الثكنة التي يؤدي فيها خدمته الإلزامية، ويقوم بعمل متوازيات بصرية مؤثرة في وقت لاحق أثناء عمله كمساعد مخرج في فيلم سوري يصوَّر في دمشق. في حالة هذا الفيلم ينطلق السؤال الأخلاقي التالي، إلى أي مدى يمكن المخرج الإيقاع بأبطال حكايته، من دون تنبيههم إلى أنه يصورهم في فيلم من هذا النوع.

السينما الرسمية

ليس الاختلاف هنا مادة لحكاية سينمائية من النوع الذي يقصده كوكتو في تعبيره. الأفلام الروائية التي صورت هذا العام برعاية المؤسسة العامة للسينما السورية وهي القطاع الحكومي الموكول بصناعة السينما في البلاد، لها منحى مختلف في تقييمها للأزمة، وهو اختلاف جذري في تبنيه لحكاية مختلفة تماماً، وإن وجدت هذه الأفلام في الحرب الدائرة في سورية ذريعة كافية لنسج قصص بعضها يدور عن «الحب في الحرب» كما في فيلم عبد اللطيف عبد الحميد الذي يحمل عنواناً بالاسم ذاته، ويفترض أن الكاميرا قد دارت بين مدينتي طرطوس ودمشق، ويحكي قصة ضابط على أحد الحواجز يقع بحب فتاة أثناء «قيامه بواجبه»، أو فيلم «أهل الشمس» لباسل الخطيب الذي لا يبتعد عن مقاربة الحرب من خلال شخصيات تجد نفسها منغمسة فيها بأسباب ودوافع مختلفة على مقولة واضحة ومركبة تتجلى في تساؤل قد يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، هو ما إذا كان الانتقام ممكناً لكل شخص بعيداً عن الدولة والقانون. أما «مطر حمص» لجود سعيد الذي يتخذ من مدينة حمص بعد عودتها لحضن النظام ديكورات طبيعية لفيلمه الجديد، فهو الأكثر اقتراباً من أجواء الأزمة السورية، وهو في تصريحاته المتعاقبة عن الفيلم، يبدو وكأنه يحاول استعادة المدينة بطقوسها وذكرياتها وحصارها المديد من فيلمي «العودة إلى حمص» لديركي، و»ماء الفضة» لسيماف بدرخان وأسامة محمد، وإن كان بالإمكان القول إن سعيد متمكن إلى حد بعيد من بناء كادر سينمائي مشبع برؤية بصرية، على الأقل كما شاهدناه في أفلامه السابقة القصيرة أو الطويلة، وهي تعوز إلى حد ما الآخرين الذين يتنافس معهم في هذا الميدان.

إذن يتسابق الطرفان في صنع أفلام روائية وثائقية. بعضها ينال جوائز في محافل سينمائية عربية ودولية. أما الصوت الثالث فيكاد يخفت لأسباب إنتاجية بحتة. وفي هذا السياق، ثمة فيلم قصير للمخرجة السورية المقيمة في البحرين إيفا داوود يحمل عنوان «ربيع مر من هنا» أنجزته مطلع هذا العام، يحكي عن ثورات الربيع العربي من وجهة نظر خاصة بها. لا مجال بالطبع هنا لإبداء آراء محكمة في أفلام غير مكتملة، أو لا تزال مجرد تصورات ووعود على الورق يجري الحديث عنها.

المستنقع السوري تكبر دائرته، ويكاد يقتاد الجميع إلى هاويات أكبر، يصبح فيها السؤال عن السينما سؤالاً مكرراً عن لازمة الجحيم الذي يشكله السؤال عن الوطن في ظل الاختلاف في الرأي على الفيلم الواحد، لا كما يتناوله جان كوكتو، ولكن كما يصوره السينمائيون السوريون في أسوأ لحظات السؤال عن السؤال، فلم تعد الصالة هي ذاتها التي تتيح عرض الفيلم ويتبعه الاختلاف. ثمة في هذا البعد الإضافي فيلم «الرابعة بتوقيت الفردوس» للمخرج محمد عبد العزيز، وفيه يعاين مصير سبعة أشخاص في مدينة تتأرجح بين الحرب، وهواجس البقاء أو الخروج إلى اللامكان.

في اختصار، هي حصيلة سينمائية تكاد تشبه خريطة الأزمة، والكر والفر اللذين تقوم عليه حرب الأخوة، ومن يضارعهم من الخارج، خارج الصالة، في المهرجانات والصالات التي يتنازعون عليها أيضاً في العلن، وفي الخفاء.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى