صفحات الناس

سنجار: نساء انتحرن قبل أن يُسبين … و«البيشمركة» انسحبوا من دون انذار السكان

 

أربيل – سامان نوح

كانت الموطن الأول لاتباع الديانة الايزيدية وملاذهم الأخير، لكنها اليوم أرض خاوية تتناثر على طرقاتها جثث القتلى وتنسل بين دروبها العتيقة عربات الخلافة وهي تحمل مئات من أبنائها المحكومين بالإعدام سلفاً إلى مقابرهم الجماعية، فيما تظهر من بعيد مواكب النساء السبايا وهي تودع المدينة في طريقها إلى معاقل «الأمراء المجاهدين».

قبل بزوغ فجر يوم الأحد الثالث من آب (أغسطس)، كان مشهد سيل السيارات المتجهة إلى الجبل الجاثم على حدود الصحراء يثير الرعب. وقف راعي الغنم وليد علو الذي تعود أن يخرج بأغنامه إلى أطراف الجبل في ساعة مبكرة كل صباح، مشدوهاً وهو يرى «نهراً من الأضواء تخترق عتمة الليل».

كانت تلك أضواء السيارات التي تحمل عشرات الآلاف من المذعورين وهي تتسابق باتجاه الجبل الذي مثل نقطة الخلاص من موت أكيد.

مع خيوط الشمس الأولى وصلت إلى مداخل الجبل مجاميع العوائل المنهكة من المشي والتي لم تجد من ينقلها بالسيارات.

كانت العيون المتوجسة تنتقل سريعاً بين المدى المنظور للجبل الصخري الجاثم على باب الصحراء وبين الطريق الممتد إلى المدينة «المنكوبة» وهي تدقق في كل قادم جديد خوفاً من أن يكون «جيش داعش الجرار» بعرباته السريعة التي تهاجم كالجراد الجائع مزارع القمح.

بعد ساعات تزاحمت على الدروب الجبلية آلاف العوائل التي خارت قوى العجائز والأطفال فيها، فتجمعت قرب الأخاديد الجبلية التي تؤمن شيئاً من الظلال تخفف حر الشمس الحارقة، فيما كانت تسمع من بعيد أصوات الطلقات النارية.

عشرات الآلاف تناثروا في كل بقعة متاحة وهم ينتظرون أن يتبين المشهد، بين وصول قوات البيشمركة الكردية لإنقاذهم، أو انقضاض مسلحي «داعش» عليهم. لكن الأخير بدا الأقرب مع تصاعد دوي الإطلاقات القادمة من ضواحي المدينة، فيما بدأت قصص القتل الجماعي والاعتداء على الفتيات تنتقل سريعاً عبر أجهزة الموبايل التي لم تتوقف عن نقل الأخبار الصادمة.

الجبل… الملاذ الوحيد

مع اختفاء أثر البيشمركة وانسحابهم كلياً باتجاه الأراضي السورية، عرف خيري حسو، وهو مقاتل ايزيدي في الأربعينات من عمره، أن طائفته تواجه مذبحة جديدة ستضاف إلى الـ 72 مذبحة التي وثقها الايزيديون في موروثهم الثقافي وأغانيهم الملحمية.

لحظتها قرر حسو الذي شهد الهجرة المليونية للسكان الكرد أمام جيش رئيس النظام السابق صدام حسين عام 1991، إبعاد عائلته إلى عمق الجبل والاستعداد معهم لمعركة مع الموت. قال: «انهم يريدون إبادتنا، وهذا الجبل القاسي ملاذنا الأخير كما كان في كل المذابح السابقة».

القرار ذاته اتخذه آلاف آخرون، فمشاهد التركمان الشيعة الهاربين من القتل في بلدة تلعفر المجاورة قبل نحو شهرين، كانت لا تزال حاضرة بقوة في عيون أهالي سنجار، من ايزيديين ومسلمين ومسيحيين وكرد وتركمان. وهو ما دفعهم من دون تفكير للنزوح بعيداً من بطش عدو لا يرحم، تاركين خلفهم كل شيء، بما فيه ذكريات التاريخ الطويل للتعايش المشترك.

ساعات الانهيار

طوال الأسبوع الذي سبق الهجوم على المنطقة لم تكن تحركات مقاتلي الدولة الإسلامية طبيعية، فالحشود تواصلت مع نهاية شهر رمضان الماضي، واستمرت خلال عيد الفطر، الكل في مجمعات جنوب سنجار كان يتوقع هجوماً واسعاً، بيد أن كل تنبيهات الأهالي ومناشدات تسليحهم لم تلق استجابة لدى قادة قوات البيشمركة.

ما حصل كان صادماً، بحسب داود قلو الذي شهد أحداث الساعات الأخيرة قبل سقوط سنجار بيد مقاتلي الدولة الإسلامية «بعد الثانية من منتصف الليل اشتد القصف بالهاونات على مجمعات سيبا شي خدر، وتل عزير، وكرزرك، وفي الوقت ذاته انسحب البيشمركة تاركين سكان المنطقة وحدهم يقاومون بأسلحتهم الخفيفة وعتادهم القليل، والذي نفد بعد ثلاث ساعات فانهار معه كل شيء».

مع انهيار المقاومة في تلك المناطق، اقتحم مقاتلو «داعش» بنحو 40 سيارة تلك المجمعات، وقتلوا كل من صادفوهم في طريقهم من رجال ونساء وحتى أطفال. ومع وصول أخبار الإبادة تلك إلى سنجار انهارت الأوضاع هناك حتى قبل وصول «داعش» إليها.

لم يتردد قلو في اتهام المسؤولين الأمنيين بخيانة واجبهم: «لقد وثقنا بهم لكنهم خذلونا، لم يسلموا الأسلحة والذخائر لنا لنقاتل بها، ولم يقاتلوا فقد كانوا أول الفارين بعرباتهم العسكرية عبر سورية… لقد باعونا للدولة الإسلامية».

أسقط الرعب الذي صنعته المذابح و»الانسحاب المريب» للبيشمركة من مواقعها في المدينة ومقارة الأحزاب الكردية كل إمكانية للمقاومة في سنجار، واكتظ الطريق إلى الجبل بالعوائل فيما هرب آخرون باتجاه مدينتي دهوك وزاخو الكرديتين والحدود السورية، بينما عجزت مئات العوائل عن النزوح لعدم امتلاكها سيارات أو لوجود مرضى وعجائز لا يقوون على المشي.

هؤلاء كانوا أول ضحايا «داعش» إذ تم خلال ساعات تصفية عشرات الشباب وأخذ مئات النساء سبايا إلى معتقلات الدولة الإسلامية في بعاج وتلعفر والموصل.

خيانات وسلب ونهب

«قلة من الايزيدية نجوا من مذبحة مقاتلي داعش ذلك الصباح» يقول أحمد علي، وهو كردي مسلم ترك سنجار حين لمح جاره يدل مجموعة من مقاتلي الدولة الإسلامية على بيوت الايزيدية والشيعة في منطقتهم المختلطة، فيما كان آخرون يسرقون ممتلكاتهم.

توجه علي من فوره إلى الموصل عبر طرق جانبية أوصلته مع عائلته بعد يومين إلى دهوك ومعه نورا ابنة جاره الايزيدي التي كانت الناجية الوحيدة من المذبحة التي طاولت عائلتها بعدما تأخرت في مغادرة سنجار.

نورا ذات 15 سنة، كانت مختبئة في كومة حطب حين اقتحم مقاتلون كانوا يتحدثون بلهجة غير عراقية، منزل عائلتها بعد الساعة الواحدة ظهراً وقتلوا شقيقها ووالدها العجوز أثناء مقاومتهم محاولة أخذ شقيقتها ووالدتها.

قالت وهي تخفي وجهها بأطراف منديل كان يغطي رأسها: «لم يعد لي أحد، لا أعرف شيئاً عن شقيقتي ووالدتي، ولا عن أعمامي، ربما قتلوا أيضاً، لم يعد لي أحد في هذا العالم؟».

قاسم عيدو، وهو أحد الايزيديين القلائل الناجين من الموت، تحدث عن الساعات الأولى لسيطرة الدولة الإسلامية على سنجار: «طلبوا منا عبر مكبرات الصوت عدم مغادرة بيوتنا، مؤكدين أننا في أمان، لم نكن نصدقهم لكن لم يكن هناك سبيل للهروب، ثم بدأوا باقتحام البيوت… قتلوا كل شاب ايزيدي صادفوه، وعتقوا بعض الرجال، وتم خطف معظم النساء واقتيادهن إلى مقار تمركز التنظيم».

قتل وانتحار

خلال ساعات تناثرت جثث عشرات الرجال ممن أعدموا بشكل كيفي أو قتلوا وهم يدافعون عن بناتهم اللواتي أخذن سبايا، فيما أبقى التنظيم على العديد من العجائز ولم يتعرض لهن. لكن جارة عيدو، العجوز ريحان، لم تحتمل ما جرى لعائلتها «صعدت إلى الطابق العلوي ورمت بنفسها».

«حتى من حاول الاختباء أو الهروب عبر الطرق الجانبية لم يتمكن من النجاة بسبب الخونة من أهل المدينة الذين كانوا أعضاء في التنظيم»، يقول حسن شيخو: «إنها مصيبة كبرى ستشعل ثارات لن تخمد لسنوات من بعد رحيل داعش».

شيخو الذي أكد مغادرة المسلمين الشيعة والكثير من الكرد والعوائل المسيحية والتركمانية إلى جانب الايزيدية للمدينة، اتهم البعض بما اسماه «خيانة عهود الدم» التي بينهم، «شاركوا في الهجوم وأرشدوا المسلحين إلى بيوتنا ومحلاتنا طمعاً بالغنائم، أنا أعرف أحدهم، طالما كان يزورني في منزلي ويأكل من طعامي».

صدمة السقوط

لم يحدث السقوط وما تبعه من انهيار بالصدفة، كما يرى عيسى شمو: «لقد هاجموا بأعداد كبيرة من المقاتلين في منطقة رخوة عسكرياً واخترقوها، في الوقت الذي أطلقوا الإشاعات عبر العشرات من مؤيديهم لخلق الفوضى والرعب، ونجحوا في صنع شعور باستحالة مقاومتهم».

بينما كان هناك في تلعفر وتلكيف والحمدانية وبرطلة وهي مدن مسيحية سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية لاحقاً، طريق للنجاة، لم يكن ذلك متاحاً في سنجار، ولم تكن هناك خيارات أمام الايزيديين كالتي وضعت أمام المسيحيين، فقد تمت محاصرة الجميع في الجبل وقطع مقاتلو الدولة كل الدروب المؤدية منه إلى العالم.

كان أمامهم سبيلان للنجاة وسط كم الرعب الذي أعد لهم، إما الموت في الجبل جوعاً وعطشاً أو الخروج ليصبحوا صيداً سهلاً لمقاتلي التنظيم الذين يجيدون القتال في المناطق المفتوحة حيث يمكنهم الهجوم والانسحاب.

صناعة الرعب

بعد يومين من سقوط سنجار، ترك مقاتلو الدولة الإسلامية فتاة في العشرينات من عمرها على مقربة من المدخل الشمالي للجبل، كان صوتها مسموعاً في كل اتجاه على رغم الانهيار الذي بدت عليه، كانت تلح وهي تبكي على بعض الرجال لقتلها «لقد اعتدوا علي، فعلها أشخاص عدة ثم تركوني هنا… أرجوكم اقتلوني».

«كان واضحاً أنهم يريدون بث الرعب في الجبل كله، وقد نجحوا في ذلك» يقول شمو.

على بعد مئة متر من هناك توزع عدد قليل من الرجال بملابس بيضاء وعلى رؤوسهم أغطية حمر وهم يحملون أسلحة خفيفة، في مهمة صعبة لمنع اقتراب مقاتلي «داعش» من الطريق المؤدي للجبل.

قال أحدهم: «لقد فعلوها مع فتيات أخريات، اعتدوا عليهن ثم ألقوهن في مدخل الجبل».

لم تكن حوادث فردية، فقدت انتحرت فتاة أخرى في مكان قريب، كان تم الاعتداء عليها وتركها تهرب، بحسب كمال شنكالي، الذي شهد عملية الانتحار، حين كان نازحون يحاولون منعها.

توضح الصور التي نشرها التنظيم نفسه في صفحات تابعة له، بعد ثلاثة أيام من اقتحام سنجار، عمليات إعدام جماعية لشبان مكتوفي الأيدي يتم إطلاق النار عليهم من الخلف بأسلحة خفيفة. بعض الصور التي حملت عنوان «فتوحات نينوى» أظهرت بعض شباب المنطقة ومقاتلين من التنظيم ذوي لحى طويلة وشعر كث، ويظهر بعضهم بملابس أفغانية، فيما تكشف وجوه آخرين أنهم من بلدان شرق آسيوية.

سوق السبايا

صناعة الرعب لم تتوقف عند ذلك، فقد كشف نشطاء مدنيون ومسؤولون محليون وبرلمانيون، عن اختطاف أكثر من 700 امرأة ايزيدية في الأسبوع الأول لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على سنجار، واستحداث سوق للجواري في الموصل، حدد سعر المرأة فيه بـ 150 إلى 500 دولار.

بحسب مسؤولين فإن السبايا الايزيديات جرى بيعهن للمسلحين الأجانب. وتم تحديد أوقات البيع في الصباح والمساء بشكل يمنح الفرصة للمقاتلين «للتمتع بالنساء خلال إجازاتهم».

تلك المعلومات أكدها المتحدث باسم الهلال الأحمر العراقي محمد الخزاعي، قائلاً إن التنظيم الذي «يحتجز عشرات النساء الايزيديات والتركمانيات في مطار تلعفر بعد تصفية الرجال والأطفال، عرض نساءً للبيع في أحد أسواق الموصل».

حاول معد التحقيق طوال عشرة أيام التحقق من تلك المعلومات، لكن دخول المناطق التي يتمركز فيها التنظيم في الجانب الأيمن من مدينة الموصل حيث يتسوق المسلحون ويقومون بصفقاتهم التجارية بدت مهمة مستحيلة مع تكثيف التنظيم لدورياته.

في 13 آب اتصل شاهد عيان قروي موثوق به يسكن منطقة الساعة وسط الموصل بمعد التحقيق، وأكد أن مسلحين أنزلوا نساء من باص صغير ثم عرضوهن لمدة نصف ساعة وهنَ يرتدين ملابس سوداء، بينما انتشر في المكان نحو ثلاثين مسلحاً معظمهم كانوا من الأجانب والعرب، وبعدها جرى توزيع النساء على أكثر من عشر سيارات.

لم يؤكد الشاهد أن ما جرى كان صفقات شراء وبيع لنساء. بيد أنه كان متيقناً من أن النسوة وزعن على مجموعة رجال بعد عرضهن عليهم.

مسلمة أو جارية

نفى أبو عبد الملك، وهو مساعد أمير في الدولة الإسلامية، حصول عمليات بيع وشراء لنساء، وأنكر وجود أي سوق للسبايا في الموصل، معتبراً أن كل ما يروج هو محاولات لتشويه صورة الدولة الإسلامية.

على رغم ذلك فإن أبو عبد الملك الذي تحدث مع معد التحقيق عبر الهاتف من الموصل عبر وسطاء، أكد أن من «حق مجاهدي الدولة الاحتفاظ بنساء الكافرين سبايا طالما رفضن دخول الإسلام، كما أن من حقهم الحصول على جزء من غنائم غزواتهم».

مساعد الأمير الذي نفى علمه بوجود نساء ايزيديات أخذن سبايا، أقر بوجود نحو 250 امرأة في الموصل «كن ايزيديات قبل أن يدخلن الإسلام ويصبحن نساء حرات… خيرناهن بين البقاء في بيوت المجاهدين بكل ما في ذلك من التزامات شرعية كالمعاشرة والخدمة المنزلية، أو إعلان إسلامهن ليصبحن حرات».

أبو عبد الملك أكد أن جميع الايزيديات «اخترن دخول الإسلام، وأصبحن حرات يمكنهن الزواج أو رفض من يتقدم لهن».

وعن مصير من أسلمن، قال: «جرى إسكانهن في بيوت آمنة وتحت حماية الدولة وفق طلبهن لأنهن غير قادرات على العودة إلى عوائلهن خشية قتلهن بعد دخولهن الإسلام، ولأن أزواجهن أصبحوا حراماً عليهن».

في الرابع من آب كشفت منظمات ايزيدية ولجنة حقوق الإنسان في البرلمان الكردستاني عن خطف 500 امرأة ايزيدية من سنجار. الرقم ذاته أكدته بعد يوم واحد النائبة في البرلمان العراقي فيان دخيل التي وقفت تحت قبة البرلمان تناشد العالم إنقاذ 30 ألف عائلة محاصرة في جبل سنجار من الموت عطشاً وجوعاً.

في العاشر من آب تلقت عائلة ايزيدية مكالمة من إحدى بناتها المختطفات، أكدت خلالها وجود أكثر من 200 امرأة محتجزة معها في موقع في قضاء البعاج جنوب سنجار، مبينة أن المعتقلات يعاملن كسبايا حيث يتم اقتياد الجميلات منهن «لخدمة الأمراء»، وطالبت الفتاة «بقصف المكان بالطائرات لكي تنتهي معاناتهن».

في الـ20 من آب قال وزير حقوق الإنسان العراقية محمد شياع السوداني، أن «داعش» تحتجز أكثر من 600 فتاة ايزيدية في بناية مدرسة الآثار في قضاء تلعفر، ونحو 75 امرأة شيعية في قضاء سنجار. لكن الوزارة لم تورد أرقاماً في شأن المحتجزين في سجن بادوش وفي مراكز الاعتقال في الموصل وقضاء البعاج وهي مراكز يحتفظ فيها مسلحو داعش بالمئات من أسراهم.

في اليوم ذاته رجح قائممقام سنجار ميسر حاجي صالح، أن يكون عدد المختطفات أكبر بكثير: «هناك أكثر من ألف امرأة إيزيدية نقلن إلى خارج سنجار، وهناك قرى كاملة رهينة بيد داعش ولا يعرف مصير العوائل فيها».

مسؤولون آخرون في المدينة قالوا إن تحديد الأرقام وتوثيقها سيحتاج إلى وقت طويل فهناك أكثر من 200 ألف نازح ايزيدي تشتتت عوائلهم ولا يمكن إحصاء المفقودين منها قبل مرور أسابيع، مؤكدين أن هناك مئات المحتجزات في مواقع مختلفة بينها مراكز اعتقال في سنجار ومطار تلعفر وغابات الموصل ومركز رياضي قرب فندق نينوى بالاس، فيما قدر علي إيزيدي الناشط المدني الذي يتابع إحصاء أعداد المعتقلات، الرقم بأكثر من ألفي إيزيدية معتقلة، قسم منهن في سجن بادوش في الموصل، وأخريات في مدينة تلعفر.

الدخول في الإسلام

القسوة التي تعامل بها مقاتلو الدولة الإسلامية مع أهالي سنجار، لم تكن مسبوقة في أية منطقة أخرى فرضوا سيطرتهم عليها، فكل الايزيديين من الرجال والأطفال كانوا محكومين بالموت وكذلك المسلمون الشيعة وحتى المسلمون السنة من الكرد المقاتلين في صفوف البيشمركة.

كما لم تقتصر أوامر القتل على الايزيديين الذي رفضوا إعلان إسلامهم، بل شملت حتى الذين أعلنوا إسلامهم، بحسب العديد من الناجين.

مواطن خمسيني من سنجار أكد، من دون أن يكشف عن اسمه، أنه اضطر مع عائلته لإعلان إسلامه في جامع في سنجار بعد ساعات من غزو المسلحين للمدينة، لكن مقاتلي «داعش» جاؤوا بعد يومين وأخذوا اثنين من شقيقاته، قالوا له بأنهما أصبحتا جاريتين، وبعد ساعات أعادوهما مجدداً.

قال الرجل بصوت مبحوح: «لم استطع الاعتراض خوفاً من قتلنا جميعاً، لا نعرف كيف ننجو، حتى حين نصبح مسلمين، يأتي أمراء ويقولون إن قتلنا حلال وإسلامنا باطل لأنه حصل من دون قناعة».

إذا كان القتل والسبي مصير الايزيديين الذين دخلوا الإسلام، فكان حتمياً قتل الممتنعين. ففي ظهيرة 15 آب طوق مسلحو التنظيم قرية كوجو التي تبعد 18 كلم جنوب سنجار ويبلغ عدد سكانها نحو 1200 شخص، تم تجميع الأهالي في مدرسة القرية وجرى فصل النساء عن الرجال، ثم إعدام 80 رجلاً بالرصاص، هذه ما أكدته معظم الروايات الرسمية.

لكن واحداً من أبناء القرية ومن أعيانها المعروفين قال لمعد التحقيق، إن أكثر من 300 شخص قتلوا في ذلك اليوم هم كل الرجال بمن فيهم كبار السن، فيما تم اعتقال الأطفال والنساء واقتيادهم بالشاحنات إلى مناطق مجهولة.

الرجل الذي فقد 18 فرداً من عائلته هم أبناؤه وأحفاده، قال إن مسلحي التنظيم هددوا في اليوم الأول لسيطرتهم على المنطقة بقتل جميع أهالي القرية إذا لم يسلموا أسلحتهم، والتهديد ذاته وجه لقرية الحاتمية القريبة، مع التعهد بترك القرية بسلام إذا سلمت سلاحها. جرى لاحقاً تسليم الأسلحة، لكن المسلحين عادوا بعد أسبوع وخيروا الأهالي بين إعلان إسلامهم أو القتل.

رقم الضحايا ذاته أكده كريم سليمان المتحدث باسم المجلس الروحاني الايزيدي، مقدراً عدد الايزيديين الذين قتلوا منذ بداية الأزمة بأكثر من 2500 شخص.

لكن قائممقام سنجار قال إن 413 شخصاً قتلوا في كوجو، وفق شهادات شيوخ القرية، هم كل من تجاوز عمره 13 سنة، وجرى دفنهم في مقابر جماعية، إلى جانب سبي 700 امرأة وطفل.

أسابيع المأساة الأيزيدية:طريق النجاة من المذبحة يشقّها حزب العمال الكردستاني

في النقطة الأخيرة التي تفصل الجانب الغربي من جبل سنجار عن الصحراء التي يسيطر عليها مقاتلو «داعش»، حيث تمركز مقاتلون كرد، جلست خجو إسماعيل التي جاوز عمرها السبعين، منتظرة قدوم الشاحنة لنقلها إلى الجانب السوري من الحدود.

تقول خجو وهي تمسح عينيها بيدين مرتجفتين: «مرة أخرى هناك ناجون سيحملون روح الشعب الأيزيدي إلى يوم القيامة».

لكن ابنها الثلاثيني ميسر خدر، بدا أقل تفاؤلا وهو يلخص مشهد الكارثة التي حلت باتباع الديانة الأيزيدية في العراق على يد الدولة الإسلامية: «خذلنا من كان عليه أن يحمينا، انسحبوا وتركونا وحدنا نواجه الطوفان.. خاننا أبناء عشائر طالما كنا نتصور أنهم إخوتنا».

يوشك خدر أن ينهار من الأسى وهو يتذكر تفاصيل المأساة التي حلت بمواطنيه: «وضعوا 300 ألف أيزيدي في مصيدة لم يعرفها شعب من قبل، تحولت قرانا إلى مسلخ كبير، فمن كل اتجاه حاصرونا وهم يطلبون رؤوسنا وشرفنا.. لم يكن أمامنا غير هذا الجبل القاسي».

جبل سنجار كان الملاذ الوحيد للنجاة من الموت قتلاً على يد مسلحي الدولة، وللخلاص من «غزوات» ظلت تتوالى على البلدات والقرى الأيزيدية المتهم أهلها «بعبادة الشيطان» والذين دفنوا بعد «عروض قتل جماعية» في مقابر في ضواحي القرى على يد مسلحين ينفذون بفرمانات تبيح نهب كل ما يقع بين أيديهم وسبي كل امرأة يشتهونها، وفق شهادات عشرات الناجين ممن كتب لهم الخلاص.

لكن الجبل الصخري الممتد لمسافة 75 كيلومتراً، والذي استقبل نحو 30 ألف عائلة، حملت كهوفه ودروبه الموت جوعاً وعطشاً لمئات الفارين من جيوش دولة الخلافة التي أباحت لنفسها إنهاء وجود شعب في أرض ظلت موطنه الأول آلاف السنين.

إبادة على وقع الانهيار

حدث كل ذلك خلال ساعات، حين تخلت قوات البيشمركة الكردية عن مواقعها بعد صدور أوامر من قياداتها بالانسحاب من معركة بدت غير متكافئة مع مئات من مقاتلي الدولة الإسلامية المعززين بأسلحة استولوا عليها في 10 حزيران (يونيو) حين سيطروا على مدينة الموصل وغنموا كل ما خلفه الجيش العراقي من معدات.

يقول وحيد خليل، وهو أيزيدي شارك في القتال: «بعد منتصف الليل وجدنا أنفسنا وحدنا في المعركة، حين انسحب البيشمركة من دون أن يبلغونا.. قاتلنا في سيبا شيخ خدر وكرزرك (جنوب سنجار) أكثر من أربع ساعات، لكن كل شيء انهار مع نفاد الذخيرة واستمرارهم في قصف البيوت بالهاونات.. أجبرنا على ترك مواقعنا لإنقاذ عوائلنا».

يؤكد مسؤولون في قوات «حماية الشعب» الكردية السورية، أن 700 عنصر من البيشمركة انسحبوا من نقاط تمركزهم في بلدة ربيعة ومحيط سنجار ولجأوا إلى الجانب السوري من الحدود عبر تل كوجر ومناطق أخرى. تتطابق تلك الرواية مع شهادات نازحين أيزيديين ومقاطع فيديو تظهر مقاتلين كرداً يعبرون الحدود العراقية السورية بعرباتهم على رغم مناشدات مواطنين لهم عدم الانسحاب والاستمرار في القتال.

أمام ذلك الانهيار وزحف عشرات الآلاف من الأهالي المرعوبين إلى الجبل، كان القتال مستحيلاً، فانتشرت عشرات المقاتلين على السفوح المطلة على المدينة لمنع تقدم مقاتلي الدولة نحو الجبل، الذي غصت دروبـه بالنـازحين المنـهكين ممـن تـمكنـوا مـن الفرار.

يتابع خليل: «قبل الفجر رأينا أضواء سياراتهم التي تحمل أسلحة متوسطة وهي تدخل سنجار، عشرات منها تقدمت في طوابير طويلة، هؤلاء قتلوا كل من صادفوه أمامهم من أيزيديين وشيعة.. بعد ساعات نقلوا الأسلحة المتروكة ونهبوا كل شيء ذي قيمة وقع بين أيديهم وحملوه باتجاه مدينتي تلعفر والموصل».

استمر النهب في اليومين التاليين، وهو ما أعطى شعوراً بأن الدولة الإسلامية لا تفكر في البقاء في المدينة، وأنها تخطط للرحيل، لكن ذلك كان يرتبط بتحرك قوات كافية من البيشمركة إلى المدينة لاستعادتها «وهو ما لم يحدث أبداً».

الهروب من الموت إلى الموت

الهروب الجماعي لأهالي المدينة تحت رعب اقتحامها، لم يترك أي فرصة للتفكير بحمل ما يمكن أن يحتاج إليه النازحون في رحلتهم نحو المناطق الآمنة. لم يتذكر معظمهم أن الجبل لا تتوافر فيه المياه ومصادر الغذاء.

يقول دخيل كريت: «خرجنا تحت تهديد الموت بحواس متعطلة عن التفكير بأي شيء غير النجاة بأرواحنا، نسينا كل شيء دون ذلك، ووجدنا أنفسنا بعد ساعات وقد هربنا من الموت إلى الموت».

وسي عيدو، التي هربت مع عائلتها من تل عزير قبل اقتحامها بدقائق وقضت خمسة أيام في المشي قبل أن تصل إلى سورية، قالت: «كان القصف على رؤوسنا، لم يفكر احد بحمل قنينة ماء أو بعض الطحين والرز.. نفد الخبز في اليوم الأول، وقضينا ثلاثة أيام بلا طعام، كان الموت أقرب إلينا من أي شيء آخر».

«كان اليوم الأول مشحوناً بمشاعر متناقضة، الرعب من الموت، الدهشة من هول الحدث، الخوف من الآتي.. ظلت الأسئلة تنهال من دون إجابات، كيف حدث ذلك؟ ومن بقي في المدينة؟ ومن لم ينج من العائلة؟» يقول ياسر نواف، وهو ناشط مدني أيزيدي: «كان البعض يتهم قوات البيشمركة ببيعهم لداعش».

في اليوم التالي زاد حجم الغضب مع انتشار أخبار «القتل الجماعي وخطف النساء»، ومع إدراك النازحين أنهم مهددون بالموت عطشاً وجوعاً، وأن البيشمركة تركت كل المنطقة تسقط بيد التنظيم، الذي أصبح يطوق كامل جبل سنجار.

مع مرور الساعات من دون ظهور «المنقذ» وتوقف عمل أجهزة الهاتف، بدأت العوائل تتوزع في مجموعات على جوانب التضاريس الجبلية التي تمنح بعض الظلال وتبتكر أساليب لإطالة قدرات أفرادها على مقاومة الموت في بيئة قاسية تتجاوز درجات الحرارة فيها 45 درجة مئوية في النهار.

البعض كان يبحث عن المياه في مكائن السيارات المتروكة في مداخل الجبل، وآخرون في آبار لم يتم استخدامها منذ سنوات وفي ينابيع نتنة.

قطعان الغنم التي وصلت سالمة تم ذبحها في مساء اليوم الأول واكل لحومها نية أو بعد شيِّها على النار إذا توفر الحطب. في الأيام التالية كانوا يطحنون ما توافر من حنطة مع المياه ويطعمونها للأطفال لسد شيء من جوعهم.

يقول رستم رمبوسي، وهو معلم ابتدائي أمضى 26 ساعة مشياً مع شقيقه الأصغر وزوجته وابنتيه للوصول من قريته إلى الجبل: «كنا مهددين بدوريات المسلحين، وجدنا سبع جثث في موقعين مختلفين على الدروب التي سلكناها».

«وصلنا في أول الليل منهكين نتحسس المكان بأيدينا، وجدنا عوائل تفترش الأرض، إذا ما اقتربت كان يمكنك أن ترى أناساً ممددين على طول الجبل لا تعرف هل هم نيام أم موتى غادرتهم الحياة.. تمددنا قرب عائلة أشعلت ناراً بعد أن جمعت بعض القش.. في ساعات الليل المتأخرة ظل صراخ الأطفال الجائعين والخائفين يكسر الصمت الذي كان يلف الجميع».

يتابع رمبوسي: «صباح اليوم الخامس، رأيت ابنة عمي. كانت تضع طفلها الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول بين يديها وتبكي بشدة، كان قد توقف عن التنفس، بعدها بساعات تمكنّا من إقناعها بدفنه بين الصخور، فلم يكن هناك من يستطيع حفر قبر له».

في الأيام التالية ظل النازحون ينتظرون خبراً لم يأت عن فتح طريق أمامهم للنجاة وعن طائرات الإغاثة المنتظرة، وظلت أحاديثهم محصورة في الأماكن التي يمكن الحصول منها على المياه، وعن عدد أفراد العائلة المفقودين وعدد القتلى والمتوفين في الجبل. ومع الإنهاك الشديد وتراجع القدرة على المشي «بدأ اليأس يدفع كثيرين من الأطفال وكبار السن للاستسلام للموت».

ووفق مصادر برلمانية وأخرى إعلامية قدمت إحصاءات اعتماداً على اتصالات تلقتها من نازحين في الجبل، توفي في الأيام الثلاثة الأولى للنزوح نحو 40 طفلاً وأكثر من 27 شيخاً بسبب نقص المياه والأغذية وعدم توافر الأدوية.

لكن الأرقام تضاعفت مرات في الأيام التالية، وقدّرها مقاتل أيزيدي تواجد لأيام قرب مرقد شرف الدين المقدس لدى الأيزيدية في جبل سنجار، حيث دفن الكثير من الضحايا بالمئات، بقوله: «كلما مضيت في طريق تجد أحجاراً مرمية فوق جثث، لا يمكنك أن تحصيهم… لا تكاد تجد عائلة كبيرة لم تخسر شيخاً أو طفلاً لها».

في انتظار الطائرات

قبل نهاية الأسبوع الأول لسقوط سنجار، ومع تزايد الأنباء عن وصول الطائرات العراقية وهي تحمل الأغذية والمياه، تصاعدت قدرات النازحين على مقاومة الموت.

قال نايف كريت: «شكل ذلك بارقة أمل، انتظرنا وصول مواد الإغاثة ستة أيام، مات الكثيرون لكني نجوت بعائلتي، كنت أركض مئات الأمتار وراء ما تلقيه الطائرات من بعيد، كنا نلوح لها ونعدو وراءها في كل اتجاه.. كانت المواد تتلف حين ترتطم بالأرض، لكنها أنقذت حياة الآلاف».

كريت اعتبر أن توالي وصول الطائرات والقرار الأميركي بالتدخل كان حبل النجاة الأخير: «قضينا 11 يوماً، كان الأطفال يسقطون كأوراق الخريف وهم يمشون حفاة على الدروب الصخرية، كثيرون ناموا فوقها ولم يستيقظوا».

فتح طريق الخلاص

بعد سبعة أيام من سيطرة الدولة الإسلامية على كامل منطقة سنجار، باستثناء جبلها، تمكن المقاتلون الموالون لحزب العمال الكردستاني من تأمين ممر يمتد بضعة كيلومترات من الصفحة الغربية للجبل إلى الحدود مع سورية، ما مكن أكثر من 100 ألف أيزيدي من النجاة.

يقول رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي صالح مسلم: «بعد أقل من اسبوع على فتح الممر (9 آب)، نستطيع الحديث عن 100 ألف إنسان عبروا من هناك إلى سورية، معظمهم عادوا ودخلوا العراق عبر معبر فيشخابور، لكن نحو 12 ألفاً استقروا في مخيم داخل سورية».

مسلم أكد في 21 آب أن «تدفق النازحين مستمر بشكل يومي، فهناك آلاف آخرون مازالوا عالقين في الجبل».

خضر دوملي، وهو ناشط أيزيدي، أكد المعلومة ذاتها: «مازال الآلاف ينتظرون من ينقذهم على الجبل، لا يمكن تحديد رقم، هناك من لا يستطيع المشي، وهناك مرضى عاجزون، وهناك من لا يريدون العودة ويفضلون البقاء والانضمام إلى عشرات المقاتلين الأيزيديين الذين يواجهون بأسلحة بسيطة مقاتلي داعش ويمنعون اقترابهم من مرقد شرف الدين المقدس في الجبل».

على رغم الخلاص الذي شكله فتح ذلك الممر لنحو 150 ألف إنسان حوصروا في مصيدة كبيرة لأسبوعين بعد أن حولت بلداتهم إلى مسلخ كبير، فإن المحامي هادي خلف، وهو أحد الذين قرروا البقاء في الجبل، يخشى أن يشكل ذلك الطريق «بداية نهاية الأيزيديين في أرضهم» وبداية رحلة عذاب طويلة إلى المجهول.

يقول خلف وهو يضع سلاح الكلاشنيكوف بين يديه: «نحن هنا منذ آلاف السنين، ولا يمكننا أن نصنع وطناً جديداً لأنفسنا.. مصيبة كبيرة أن نكمل بأيدينا المخطط الذي رسم لإبادتنا، مصيبة أن نرحل مستسلمين للجيوش القادمة من ظلمات الصحراء».

لكن صوت خلف لا يكاد يكون مسموعاً وسط الرعب الذي خلقه مقاتلو دولة الخلافة ومعادلة «القتل أو الرحيل» التي فرضوها في سنجار ومحيطها الصحراوي الذي يسهل اختراقه بوجود مئات المقاتلين من العشائر العربية المساندة للدولة طمعاً بغنائم غزواتهم، مقابل غياب الدعم التسليحي من إقليم كردستان للأيزيديين.

يلخص الباحث ثاري قادر المشهد بالقول: «لقد تركت سنجار وحدها في مواجهة وحوش جائعة تنهش كل ما تصادفه في طريقها، هذه الوحوش تزداد عدداً وقوة كل يوم، حتى صارت تهدد كل المنطقة، ولم يعد مجدياً محاصرتها أو العمل الإفرادي للقضاء عليها».

لم يعد هناك مَن يحميهم من «داعش»: الإيزيديون برسم الهجرة أو الحماية الدولية

في الطريق إلى منطقة رميلان السورية المحاذية للعراق، وقفت ليلى ذات الـ14 ربيعاً على ربوة، وقد غطى الغبار معظم ملامح وجهها، إلى حد كان من الصعب التحقق من كونها فتاة بشعرها القصير.

بدت شاردة وهي تنظر إلى أرتال القادمين من الجبل وهم يثيرون الغبار حولهم.

قال مقاتل كان يساعد الناجين على ركوب عربة نقل صغيرة: «إنها هنا منذ ساعات وترفض المغادرة قبل أن يصل والدها، كنا نظنها فتى لكن العائلة التي جاءت معها قالت إن والدها قص ضفيرتيها في الطريق لكي تنجو من عيون مقاتلي دولة الخلافة».

قالت الفتاة بصوت مرتجف: «لقد فقدته في الجبل، ذهب لجلب الماء ولم يعد، لا أعرف ما حل به، سرت مع عوائل كانت ترافقنا في الأيام الثلاثة الأخيرة وهذه هي النقطة الأخيرة، لا أريد أن اغادر إلى سورية من دونه، هو رجل كبير، أخشى ألّا أراه مجدداً».

أم ليلى وأشقاؤها كانوا سبقوها إلى الجبل يوم غادروا المدينة، وهي لحقت بهم مع والدها. الأمر ذاته حصل لآلاف العوائل التي تشتت أفرادها، وانقطعت كل سبل التواصل بينهم.

مئات آخرون بلا عائلات

ليلى ليست الوحيدة التي تنتظر وهي أسيرة الخوف، لقاء قد لا تحظى به أبداً، فهناك مئات آخرون يعيشون المصير ذاته، وفق الناشط المدني جمال قادو الذي أكد وجود ثلاثين طفلاً في منطقة إينشكي شمال مدينة دهوك فقدوا أهاليهم ويتلقون الآن الرعاية من متطوع كردي، وهناك مئات آخرون يقيمون في مخيمات زاخو ودهوك وشاريا وخانكي وديربون تحت رعاية منظمات إنسانية وعوائل إيزيدية.

من بين هؤلاء فوزية حازم، وهي في الحادية عشرة من عمرها وصلت وحدها إلى دهوك بعد أن فقدت أثر 11 فرداً من عائلتها، وفق مكتب الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في المحافظة.

في نهاية الطريق المؤمن من قبل المقاتلين الكرد، على الحدود السورية، بدا العجوز السبعيني جميل متماسكاً وسعيداً بنجاته «لقد أعدوا لقيامتنا، لكننا نجونا، مشينا حوالى أربعة أيام، كنت أصعد الجبل أحيانا على أطرافي الأربعة كالأطفال، وأحياناً كان يحملني ابني على ظهره، قلت له اتركني أموت هنا، لكنه لم يفعل».

عائلة جميل المؤلفة من تسعة أشخاص، بينهم أربعة أطفال، أمضت في الجبل 11 يوماً حصلت خلالها على وجبة عدس واحدة ووجبة برغل، وظلت بقية الأيام تطحن الحنطة وتخلطها مع الماء الملوث لتطعمه للأطفال، بينما حصل الكبار على قطع صغيرة من الخبز كانت كافية لإبقائهم أحياء.

لكن الحصول على الطعام والماء لبقائهم أحياء لم يكن همهم الوحيد، فالعائلة فقدت ثلاثة من أفرادها،هم: شاب في الثلاثينات لا أحد يعرف مصيره، وشقيقة أخذها مقاتلو الدولة الإسلامية مع زوجها.

تقول زوجة جميل، وهي تفترش التراب وإلى جانبها ابنتاها اللتان كانتا مصابتين بالتهابات في وجهيهما وعيونهما: «دعواتنا لم تتوقف كدموعنا منذ ذلك اليوم، نعيش الموت كل لحظة، هواتفهم مقفلة، ولا أحد يعرف عنهم شيئاً، إن كانوا أحياء أم لا، هناك مئات المفقودين نتمنى من الله أن يكونوا موتى، لا أن يكونوا أسرى عند داعش».

لكن حال عائلة جميل بدت أفضل بكثير مقارنة بحال فارس سليمان الذي فقد 30 فرداً من عائلته: «لم يعد هناك أحد… بناتي وأولادي وأشقائي اختطفوا جميعاً، لم يكن مقاتلو داعش وحدهم، بل كان معهم رجال عشائر عربية نعرفهم طوقوا بيوتنا وقتلوا كل من قاوم وأخذوا الفتيات والشباب».

فيصل حسن، وهو نازح آخر، وصل إلى منطقة رميلان السورية التي عبر إليها الهاربون من الجبل، بدا أكثر تفاؤلاً: «هناك إله في السماء، لا أصدق أنني نجوت مع أولادي من الموت عطشاً وجوعاً، وقبله من الذبح، استجاب الله لدعائنا، نعم فقدت طفلاً رضيعاً لكن هذه الأمة نجت مجدداً من الفناء».

إرادة الحياة لدى فيصل لم تكن غائبة عن آخرين خرجوا أحياء من الجبل.

كريم الذي ظل يدفع عربة نقل الحصى التي فرش عليها بطانية ووضعَ عليها شقيقه المعوق خدر، قال: «لم يكن ممكنا أن أذهب إلى الجبل وأتركه وحده في المنزل، كان علي أن أنقذه… ادعيت أنني مسلم وأنني ذاهب إلى بيت عمي لطلب المساعدة لشقيقي المريض، لكنني توجهت إلى الجبل… كنت محظوظاً فالذن صادفوني في الطريق صدقوني أو كانوا رحماء، لكن آخرين فشلوا في الوصول».

الأخ الأكبر ظل طوال خمسة أيام يدفع شقيقه في عربته في الطرق الجبلية الوعرة ويؤمن له الطعام والماء لإبقائه حياً، كان ذلك يتطلب أحياناً أربع ساعات من المشي نزولاً إلى الوادي، وصعوداً من جديد.

كريم الذي أصابت التقرحات وجهه، حكى عن أصعب لحظات رحلته: «في مدخل أحد الوديان، حين رمت العجوز خاتون بجسدها من على الجبل، لم تستطع المشي وكانت تخشى أن تعرقل فرصة إنقاذ عائلتها… خشيت أن يفعل شقيقي الأمر ذاته».

تابع كريم وهم يمسح دموعاً التمعت في عينيه: «طلب مني مرات عدة أن أتركه وأهرب… كان علي أن أبحث عن غذاء وماء، كنت حائراً كيف أمنحه الثقة بأنني سأعود وعليه أن ينتظرني… حلفت له مراراً أننا سنموت معاً أو ننجو معاً».

خاتون التي عجزت عن السير مع عائلتها، قررت في مساء اليوم الثالث إنهاء حياتها، يقول كريم: «ابنها ظل يومها يحملها ساعات لكنها لم تكن راغبة في ذلك، ورفضت تناول حصتها من الخبز، كان واضحاً أنها قررت الانتحار… ظل ابنها يبكي طوال تلك الليلة ويطلب منها السماح لأنه أخرجها من دون رغبتها من المنزل».

في صباح اليوم التالي دفنت العجوز التي تهشم جسدها قرب شجرة في المنطقة الوحيدة التي كان يمكن حفرها في الجبل الصخري «استخدمنا رؤوس الأحجار الحادة لحفر نصف متر، ثم ألقينا عليها الحجارة».

الرحلة التي لم تكملها خاتون، أكملتها ميان التي قضت عشرة أيام في جبل سنجار مع ابنيها اللذين حملاها على ظهريهما وأحيانا على نقالة، من قرية تل عزير شمال سنجار إلى سورية، في مسيرة نزوح لم تنقطع خلالها عينا ميان عن البكاء.

العودة إلى الوطن

طارق الياس الذي كان يغسل وجه ابنته من الغبار الذي علق به على حافة جسر فيشخابور الرابط بين سورية والعراق حين كان عائداً مع آلاف النازحين الذين اختفت ملامح الجسر تحت أقدامهم، قال وهو يحاول تهدئة ابنته التي كانت تبكي بسبب آلام الالتهابات التي خلفتها الشمس في وجهها: «تركنا كل شيء لننجو بأرواحنا… بيوتنا، مواشينا وسياراتنا، وحتى الذهب الذي كان في خزانات بيوتنا… لا نعرف ما هو مصيرنا».

وأضاف الياس وهو يرفع صوته ويهز بكلتا يديه أسفاً، بينما كانت زوجته تناديه للركوب في شاحنة غصت بالنازحين: «انتظرنا أسبوعاً كاملاً وصول مقاتلي البيشمركة، ثم عرفنا أنهم بعيدون عنا وأننا تركنا وحدنا، فتح مقاتلو الـPKK طريقاً من الجبل إلى مدينة سنونى ثم منطقة رميلان لإنقاذنا، لم يكن آمناً تماماً لكنه كان المفر الوحيد، مشينا تسع ساعات قبل أن نكون بأمان».

الياس كان قلقاً على ابنه الذي بقي في الجبل: «فضل أن يبقى هناك ويحارب، تركنا نكمل الطريق وحدنا، أردت منعه لكنه لم يستمع إلي ولا إلى أمه».

400 ألف نازح

في الـ12 من آب (أغسطس)، قدر مدير معبر فيشخابور شوكت بربهاري عدد النازحين من جبل سنجار الذين وصلوا إلى المعبر الذي يربط سورية بالعراق، بحوالى 75 ألف نازح فيما سجلت منظمة الهجرة العالمية في 11 آب، وصول 80 ألف إيزيدي نازح من جبل سنجار إلى دهوك، وهم من قدموا عبر طرق عدة، متوقعة ارتفاع الأرقام إلى الضعف مع استمرار تدفق النازحين، وفق نايف محمد المسؤول الميداني في المنظمة.

في 20 آب كشفت إدارة محافظة دهوك الكردية عن استقبالها 700 ألف نازح، غالبيتهم من الإيزيديين والمسيحيين الذين نزحوا من مناطق سهل نينوى (حوالى 250 ألفاً) وسنجار وزمار (400 ألف) التي وقعت تحت سيطرة الدولة الإسلامية، فضلاً عن وجود حوالى 30 ألف نازح من سورية ومن الموصل يقيمون في دهوك.

يشكل ذلك الرقم لمحافظة لا يتجاوز عدد سكانها المليون و200 ألف نسمة، ضغطاً هائلاً على البنية التحتية التي يقول محافظها إنها «مهددة بالانهيار»، مطالباً الحكومة الاتحادية بدعمها سريعاً لإغاثة عشرات الآلاف ممن تقدم جهات أهلية ومنظمات خيرية الطعام لهم حالياً.

ووفق مؤسسات إيزيدية، فإن 250 ألف إيزيدي تركوا مناطقهم بين 5 و15 آب، وتوزع هؤلاء في 700 مدرسة إلى جانب مئات الأبنية الحكومية والأهلية ومخيمات موقتة وهياكل بنايات غير مكتملة وحدائق عامة في مدينتي دهوك وزاخو والبلدات القريبة منهما، كما وصل عشرات الآلاف إلى محافظتي أربيل والسليمانية.

ويصف ناشطون في منظمات محلية أوضاع اللاجئين الحالية بـ «الكارثية»، مرجحين تعقدها أكثر مع تراجع الأعمال الخيرية المحدودة التي يقدمها الأهالي والتي تؤمن وجبة غذاء يومية لهم. «سيسوء الأمر أكثر مع حلول فصل الخريف وبدء انتشار الأمراض بين النازحين الذين يعانون من أوضاع صحية سيئة أصلاً بعد أسبوعين من الجوع والعطش» يقول الناشط سربست محمد.

الغالبية مع الهجرة

أمام واقعهم الحالي في مدن كردستان، وصعوبة تأمين مناطقهم التي ستظل الخط الأول لكل صراع بين الدولة الإسلامية وكردستان وبين العرب والكرد في المستقبل، يطالب معظم الإيزيديين بالهجرة إلى خارج البلاد، ويرفضون فكرة العودة إلى بلداتهم حتى لو تم إبعاد مقاتلي الدولة الإسلامية عنها. وبعضهم يطالب بإخضاع تلك المناطق لحماية دولية، لعدم ثقتهم بقدرة القوات الكردية على حمايتها.

معد التحقيق أجرى استطلاعاً في منطقتين انتشر فيهما النازحون الإيزيديون في زاخو ودهوك، شارك فيه 120 شخصاً، تضمن ثلاثة خيارات: الهجرة إلى أوروبا، حماية مناطقهم بقوات دولية، طرد «داعش» وإخضاعه مناطقهم لحماية البيشمركة.

وفق النتائج، فإن 58 في المئة من الإيزيديين الذين استطلعت آراؤهم فضلوا الهجرة، فيما فضل 37 في المئة منهم إخضاع مناطقهم للحماية الدولية.

يقول كاروان جلال، وهو ناشط مدني، إن تلك النتائج تعكس مزاج المواطن الإيزيدي الذي «فقد الثقة» بقدرة البيشمركة على الدفاع عن مناطقه حتى لو استردت «هي ستظل مهددة بغزوات مقاتلي دولة الخلافة». يضيف جلال: «فيما كسب الكرد تأييداً دولياً واسعاً بعد مذابح سنجار، فإن الإيزيديين دفعوا ثمناً غالياً».

جلال كلو، مواطن إيزيدي في الأربعينات من عمره، يفترش مع مئات آخرين جانب طريق في منطقة قريبة من معبر الخابور المؤدي إلى تركيا، يرفض كلياً فكرة العودة ويصر على الخروج بعائلته إلى تركيا ومنها نحو ألمانيا.

يقول كلو: «لدينا ضحايا لن ننساهم أبدا… خسرنا أموالنا ومواشينا وممتلكاتنا التي نهبت، لم يبق لنا شيء هناك، حتى لو طردوا «داعش»، فهل سيتركوننا نعيش بسلام وهم على حدود مدننا؟ وكيف نعوض ما خسرناه ونبدأ مجدداً حياتنا في حقل ألغام، الكلام سهل لكن الواقع غير ذلك».

القيادة الدينية والسياسية للإيزيديين، هي الأخرى ليست بعيدة من تلك المطالب، يقول حسين قاسم حسون، وهو شخصية إيزيدية التقت ضمن وفد إيزيدي كبير رئيس الوزراء في إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني: «الإيزيديون يريدون من حكومة كردستان فتح باب لطلب اللجوء الجماعي إلى أوروبا أو أميركا، كما يريدون حماية دولية لمناطقهم… قلنا إننا لن نقبل أن نعيش في إقليم لا تستطيع حكومته حمايتنا وحفظ شرف بناتنا مهما كان السبب»

يضيف حسون: «نريد فتح الباب لمن يريد الهجرة وتسهيل ذلك، ونطالب بحماية دولية لمن يقررون البقاء في سنجار».

لا ثقة بالقوات الكردية

بعد الإبادة التي تعرض لها الإيزيديون في سنجار عقب ما وصفه مسؤولون كرد بـ «الانسحاب التكتيكي من المدينة» لم تحظ تعهدات القادة الكرد باستعادة المناطق الإيزيدية وحفظ الأمن فيها، بثقة معظم الإيزيديين. ولم تلق فكرة إنشاء قوة خاصة بهم لإعادة السيطرة على سنجار وحمايتها قبولاً كبيراً في الأوساط الإيزيدية التي ترى أن الخطوة غير مجدية في مواجهة القوة الضخمة للدولة الإسلامية.

على رغم كونها ليست حلاً، فإن القوة التي وافق الإقليم على إنشائها وحصرها بأهالي سنجار من الإيزيديين والمسلمين، استقطبت خلال أيام مئات الشبان. وحظيت الفكرة بدعم من المجلس الروحاني الإيزيدي الذي أكد الناطق باسمه كريم سليمان، فتح ثلاثة مراكز للتطوع في مناطق سيميل وشيخان ودهوك، متوقعاً تسجيل ألفي متطوع كمرحلة أولى.

لكن هناك قوة ثانية قام بتشكيلها حزب العمال الكردستاني وهي تتلقى التدريبات لدخول سنجار. وهناك قوة ثالثة تمثل المقاتلين الإيزيديين المنتشرين في جبل سنجار وهؤلاء انتقدوا بشدة انسحاب البيشمركة من سنجار، واعتبروا ما حصل خيانة من جلنب القادة العسكريين لا يمكن أن تغتفر.

«هذا التشتت في القوى، يخلق شعوراً لدى الإيزيديين بأنهم قد يقعون مجدداً ضحية صراعات ومصالح حزبية يستفيد منها مقاتو داعش»، يقول سالار كريم.

شرخ مجتمعي

يرى الأستاذ الجامعي خلات سلو، أن مطالب طائفته بالهجرة مبررة: «وضعنا يختلف عن بقية المكونات، فنحن مهددون بالقتل ولا خيار لدينا غير الهجرة… المسيحيون سمح لهم بالرحيل أو البقاء مع دفع الجزية ورحبت دول أوروبية بهم، والتركمان الشيعة كان أمامهم أكثر من خيار وحصلت إعادة توطينهم في الجنوب، لكن ما الذي أمامنا نحن؟».

برهان عبدي، وهو رجل دين إيزيدي، وصف ما جرى لطائفته بأنه «إبادة بدافع التطهير العرقي، حصلت حين تخلى مقاتلو البيشمركة عن واجبهم، وخانت عشائر عربية عهود العيش المشترك»، مبيناً أن ما حصل أحدث شرخاً مجتمعياً لن يندمل سريعاً وسيظل شبحه يلاحق الإيزيديين.

واعتبرت الشخصية الإيزيدية البارزة عروبة بايزيد أن «الإبادة وقعت بمباركة الجيران المسلمين… للأسف، من كانوا مؤتمنين على حماية سنجار هربوا وسلموا المنطقة على طبق من ذهب إلى دولة الخلافة، فيما غدر العرب بنا حين رحبوا بمقاتلي دولة الخلافة وساعدوهم في الهجوم، واشتركوا معهم في نهب ممتلكاتنا».

عروبة أكدت أن وجود طائفتها في سنجار وهو الموطن الأول والأخير لهم أصبح مهدداً، مع عمليات الإبادة المستمرة هناك.

وفق أرقام وثقتها منظمات محلية ووزارات ومؤسسات عراقية، تعرض حوالى 900 رجل وشاب وطفل إيزيدي إلى الإبادة، بين 3 و18 آب، دفن حوالى 500 منهم في مقابر جماعية، إلى جانب خطف أكثر من ألف امرأة أخذن سبايا.

دلال شمو، وهي مدرسة تاريخ، قالت: «لا يمكن مقارنة ما يحدث لنا بأي ويلات سبق أن عشناها، إن مصيبتنا مزدوجة، فنحن نذبح لأننا إيزيديون ولأننا كرد، عقولنا لا تستوعب كل هذه القسوة، فهم لم يتركوا لنا خيارات كما تركوها للمسيحيين أو الشيعة، ليس بأيدينا شيء نفعله، سنظل نبكي عمرنا كله على ما حل ببناتنا».

يقول موظف البلدية سليم كامل الذي فقد ابنته: «تعرض الإيزيديون لـ72 مذبحة سابقاً، لكن هذه أشدها، لم يسبق أن سبيت نساؤنا، كانوا يقتلونهن مع الرجال، لكنهن اليوم يختطفن أمام مرأى العالم… كل ليلة أرى وجه ابنتي تناديني، أردد اسمها في كل حين، ليتنا لم نولد أبداً، ليتنا لم نعش لنشهد هذا اليوم».

هذا الخوف من الإبادة والشعور بنهاية التعايش المشترك، لا يشعر به الكردي المسلم ولا المسيحي، وهو يبدو مبرراً، فعدد من أمراء الدولة الإسلامية الذين تحدث إليهم معد التحقيق، أقرّ بقتل مئات الإيزيديين ممن رفضوا دخول الإسلام، وأخذ نسائهم سبايا «ما لم يعلنّ إسلامهن».

الأمراء في ولاية الموصل اعتبروا قتل الإيزيديين مباحاً شرعاً «هم كفرة يرفضون الدخول في الإسلام، وسنجار اليوم هي جزء من دولة الخلافة التي ليس فيها لغير المسلمين مكان إلا من دفع الجزية من أهل الكتاب».

الأمير أبو قدامة أكد أن «لا حدود لدولة الخلافة». وهو ما يضع كل الإيزيديين تحت الخطر الدائم للقتل والتهجير ما بقيت هذه الدولة قائمة على أطراف مناطقهم التي تمثل حزام إقليم كردستان.

يقول رجل الدين الإيزيدي بير شامو، إنهم اليوم مهددون أكثر من أي وقت مضى: «وجودنا في موطننا الرئيسي في خطر لأول مرة منذ قرون، وإذا خسرنا سنجار فسيكون كل وجودنا مهدداً… كنا في السابق قلقين من الهجرة لكنها ربما اليوم تمثل خلاصاً لكثيرين».

قبل أن يتحقق أمل عشرات الآلاف من الإيزيديين بالهجرة أو حماية مناطقهم دولياً، وهما خياران صعبا التحقيق، سيضطر معظمهم مرغمين على العيش في مخيمات موقتة تفتقد الكثير من أسس الحياة، وسيكون عليهم لأشهر عدة، تجميع مئات العوائل المشتتة وكشف مصير مئات المفقودين والبحث عن حلول تبدو مستحيلة لاستعادة حوالى ألف امرأة مختطفة.

وبصرف النظر عمّا ستؤول إليه مسارات الأحداث، فإن آلاف المكلومين بفقدان أبنائهم وبناتهم في فتوحات دولة الخلافة في مدينة سنجار، ينتظرهم شتاء قد يكون الأخير لهم على هذه الأرض.

شتاء سيكون الأقسى في حياة المعلم دخيل صالح الذي فقد كل عائلته ما عدا طفلته الصغيرة نسرين. صالح الذي كان يحتضن ابنته وهو يفترش الأرض على بعد بضع مئات من الأمتار عن الحدود التركية حيث يأمل بأن يتمكن من العبور عبر أراضيها إلى ألمانيا، قال: «انتهى وجودنا هنا… لن أعود أبداً إلى أرض أخذت مني كل من أحب».

* أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج).

ساهم في إنجاز التحقيق الصحافي سلام خالد، وأنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج).

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى