صفحات الثقافة

سنروي الحكايات.. لكن من يستمع؟/ أمير تاج السر

 

 

تقول فتاة شابة من مدينة حلب في سوريا، كانت حتى عهد قريب قارئة جيدة للآداب، كما ورد في رسالتها الإلكترونية: إن لديها حكايات قاسية عن الحب والحرب، تود أن توصلها للناس حتى تبكيهم. ويقول فتاح، في رسالة أخرى من بقعة أخرى مشتعلة في الوطن العربي، إن ما يكتبه بشكل يومي، قد يفوق في تأثيره ما نكتبه نحن من الذين وصموا كتابا، وانتشرت أعمالهم، لكنه لا يملك مع الأسف، منبرا محترما، ولا يتعدى قراؤه أولئك الذين يجدهم في مواقع التواصل، يضعون علامات الإعجاب بكل طيب خاطر، حتى لو لم يكن في النصوص ما يعجب.

ومن الموصل التي لم تعد الموصل، حيث البغدادي وخلافته، وحيث الدمع والدم، وما لا يمكن تخيله، يقول نسيم: إنه يملك حكاية أيضا، حكاية من يملكون الحقيقة، ويملك غيرهم الترهات..

هذه الرسائل وعشرات غيرها، تصلني على البريد الإلكتروني باستمرار، وأصنفها دائما بأنها رسائل أحلام بالشهرة، والمجد الكتابي، كما يتخيل أصحابها، ترمى في بحر الإنترنت العريض، لربما تصادف سباحا ينتشلها، ويسعى لتحقيق ما فيها. حقيقة ومنذ اختلطت الأمور في الدنيا والحكايات أكثر من الماء والهواء، البيئات بجميع أشكالها وألوانها، ومهما تنظمت أو اتسخت، تضخ الحكي.. الشوارع تحكي، البيوت بصمتها وضجيجها.. تحكي، والذين استطاعوا حتى الآن إيجاد طرق لإيصال حكيهم، أقل كثيرا من الذين ينتظرون، ويرمون زجاجات الأحلام في بحر الإنترنت العريض.

ولأن الحكي يحتاج دائما لمن يستمع إليه، سأطرح السؤال الذي أظنه مناسبا، في هذه الظروف:

من يستمع لكل هذا الحكي؟

من يقرأه إن صدر في كتب، ووزع في كل الأماكن، ومن يقلبه، حين يقلب جريدة فيها شيء منه؟

ومن أصلا يستطيع أن ينجو بوقت هادئ ولطيف في تلك البيئات المشتعلة، والمشبعة برائحة الدم والرصاص، لينفرد بالحكي، ويتسامران معا؟

وحدها الحكايات تتناسل هنا، وهناك وتستمر في التناسل لا محالة، لكن بلا متلقفين يتلقفونها، لأن المتلقفين الافتراضيين أيضا يملكون الحكي ويحتاجون لمن يتلقفه.

في الماضي كنا نطلق لقب الحكاء على أشخاص قليلين، نادرا ما نصادفهم، كانوا يملكون تجارب إما خاضوها بالفعل، وإما تخيلوا أنهم خاضوها بما يملكون من موهبة تفعيل الخيال، وصبر في الاستماع للراديو الذي يزودهم بأدوات الحكي اللازمة، يتصدرون المجالس في أي مكان يزورونه، ويحكون وسط استغراب من يستمع إليهم. وغالبا ما يروون قصصا لن تحدث لأمثالهم قط، لسبب بسيط، وهو أنهم يتجاوزون حتى الخطوط الحمراء للخيال.

نعم الخيال له خطوط حمراء، ولن يقتنع أبدا شخص يستمع لعامل يوميات فقير، يسكن حيا فقيرا، في دولة فقيرة، يروي بأنه حل ذات يوم ضيفا على قصر باكنغهام، وتعشى مع ملكة بريطانيا. أو عيّنه كورت فالدهايم، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، مندوبا له، لحل النزاعات في الشرق الأوسط.

وقد كان لدي قريب، يعمل سائقا في خطوط المواصلات العامة، ولم يخرج من البلاد إلا في آخر أيامه، بعد أن مرض وسافر يبحث عن علاج في الخارج. لكنه كان يحكي وبجدية كبيرة، وملامح متهيجة، وفي أي مكان يجلس فيه، إنه كان الصديق الأقرب للممثل يوسف وهبي، ولطالما سهرا معا في مقاهي حي الحسين والسيدة زينب، وعاكسا فتيات رشيقات، وسقطت فتاة إنكليزية، صادفاها ذات يوم، وقد قدمت سائحة لمصر، في حبه، تاركة الممثل الكبير لحسراته، ثم لتبدأ الخصومة، التي هي أثناء الحكي، مقدمة لأسطورة أخرى سيرويها الحكاء.

أذكر أنني كنت صغيرا حين ذكر الحكاء في بيتنا قصة عن جواز سفر لدولة خليجية عرض عليه، ولم يقبل، وعن فراره سرا من إثيوبيا، لأن ابنة إمبراطورها أرادت الزواج منه، ولا يحبها. شاهدت الجالسين وفيهم أبي يبتسمون، ويؤيدونه في قرار فراره الحكيم، لكني سألته:

وماذا لديك حتى تخطبك ابنة إمبراطور؟ لماذا تكذب وأنت أكبر من أبي؟

بالطبع، صدم الحكاء من جرأة الولد الصغير، وغادر مجلس الحكي غاضبا، وتم تعنيفي على تدخلي فيما لا يعنيني. نعم كان الحكي مطلوبا في ذلك الزمان، ويجد من يدافعون عنه.

الآن كل من في الأرض يحكي، من يتلقف الحكي إذن؟

كاتب سوداني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى