صفحات سوريةعمر قدور

سوء تفاهم سوري متعمّد…/ عمر قدور

 

 

مع معركة حلب الأخيرة، طُرحت تسميات لم تلقَ تجاوباً في الوسط السوري مثل «المقاومة السورية»، أو «حرب التحرير السورية». وغالب الظن أن طرح هذه الاقتراحات أتى للتخلص من عبء كلمة «الثورة»، على المحاربين ومشجعيهم في فضاءات التواصل الاجتماعي، وهو عبء غير مطروح على المدنيين الباقين في الميدان بسبب الظروف التي تحكم انحيازاتهم، والتي قلّما تتيح لهم المفاضلة على قاعدة الأفضل.

العيب في اقتراح من قبيل «المقاومة السورية» سهولة تفنيده لجهة وجود مقاتلين أجانب في جيش الفتح، فهناك فصيل كامل تحت مسمى «الحزب التركستاني»، فضلاً عن ذلك الانفكاك الاضطراري لجبهة النصرة عن تنظيم القاعدة العالمي، ما يرســـم تساؤلات محقة، وكيدية أيضاً، حول صدقية التسمية. في المحصلة، الهروب الاعتباطي من التســـاؤل عن علاقة الفـــصائل الإســـلامية بالثورة لا تجيب عنه المسميات الوطنية، سواء لوجود فصائل غير وطنية، أو لوقوع بعضها بالكامل أسيرة مصالح دولية وإقليمية. مع تأكيد، هنا، خروج المعركة عن حيّزها الوطني منذ تدخل حلفاء النظام مباشرة فيها بتقديم الدعم البشري، ولاحقاً تدخل جهات خارجية لضبط تقدم فصائل المعارضة واقتسامها.

غير أن تفنيد الاقتراح السابق لا يحجب الحاجة الماسة إلى تبديد سوء التفاهم السوري المتعمد، وهو أولاً بين السوريين، ومن ثم لا يتحمل غيرهم دائماً جريرة الوقوع في متاهاته. فإطلاق وصف الثوار على عموم المحاربين نوع من التثبيت على المرحلة التي عُرفت بعسكرة الثورة، وبدأ الإجهاز عليها منذ خريف 2012، وفوق ذلك هو في مثابة تعدٍّ على فصائل تصرّح بعدم انتمائها إلى الثورة. والحق أنها حالة شاذة تتعين بإصرار معارضين على انضواء تنظيمات إسلامية تحت لواء الثورة، ودفع ضريبة فكرية لقاء تناقض لا يريد الإسلاميون حله، بل يرى معظمهم أن الثورة فشلت وانتهت وأنهم يقومون الآن بالعمل الصائب.

ينطلق الإسلاميون من كونهم القوة المحاربة الأساسية الآن، وتقتضي النزاهة الاعتراف بهذا الواقع، من دون التعويل على جرهم إلى موقع فكري يرفضونه. وضمن منطق القوة والحرب، لا بد من الإقرار بأن الأقدر على مفاوضة الإسلاميين هو الجهات التي تملك القوة، والجهات المحسوبة على الثورة جميعها لا تملك القوة المُحتَكرة خارجياً. البقع المضيئة ضمن اللوحة العامة، كالتظاهرات ضد النصرة في معرة النعمان أو سراقب أو كفرنبل أو ضد جيش الإسلام في الغوطة، قد تكون الأجدر بشرح الافتراق بين الجانبين، من دون إغفال الظروف القاسية التي تعيق وجود حراك مجتمعي عادي.

ثمة مشترك واحد مع الإسلاميين هو السعي الى إسقاط النظام، وبصرف النظر عن عدم السماح دولياً بإسقاطه واقتصار المساومات على رؤوسه، ينبغي توضيح ذلك، وفوقه توضيح أن هذا المشترك مندرج ضمن القواعد الحالية للحرب فحسب، طالما بقي الشطر الأعظم من الإسلاميين متمسكاً بمبدأ الحاكمية معتبراً الديموقراطية شركاً.

ثمة توضيح آخر يتصل بما سبق، بتفنيد مقولة البعض في ما يخص سرقة الإسلاميين الثورة، فهم لم يسرقوها، وهم تقدموا إلى الواجهة كقوة محاربة مدعومة خارجياً، في وقت تلاشت فيه المراهنة على تحرك المجتمع الدولي لحماية المدنيين، ووصل فيه الانقسام المجتمعي إلى حد غير مسبوق.

هي الحرب وفق شروطها الخارجية ومن ثم الداخلية، مع التنويه بأن حلفاء النظام سارعوا أولاً إلى دخولها بشعاراتهم وأجنداتهم الطائفية. ومن مظاهر سوء التفاهم والفهم ألا تُرى المستويات المتداخلة والمتعددة للحرب، فهي حرب دولية بدلالة انخراط معظم القوى الكبرى فيها، وهي حرب إقليمية لا تخلو من البعد الطائفي أحياناً. وبالطبع هي حرب النظام على الثورة، لكنها في جانب منها أيضاً حربه الطائفية، المدعومة بخطاب يفهم السوريون طائفيته، ولمن لا يريد الفهم تولت بعض المذابح المبكرة في مناطق الاختلاط الطائفي إيصال الرسالة له. وهي تحولت باطراد من الجانب الآخر لتواكب طائفية النظام، متفوقة عليه على الصعيد اللفظي، وصولاً إلى تسمية معركة حلب باسم إبراهيم اليوسف الذي كانت مأثرته الوحيدة قتل مجموعة من الضباط فقط بسبب انتمائهم إلى الطائفة العلوية.

مشكلة المعارضة السورية بجميع أطيافها ليست في افتقارها إلى خطاب مشترك، وإنما في أن كل جهة منها لم تطوّر رؤية مواكبة لمآل الثورة بعد ثبوت انهيار أفقها الوطني، ومواكبة لتعدد مستويات الحرب. تفسير القصور بقلة الكفاءة السياسية لا يكفي وحده، فهناك أيضاً ما يمكن تسميته بالتقية السياسية، وهي طريقة في القول الموارب ورثها السوريون من أيام الاستبداد المديدة. فالسوريون منذ اندلاع الثورة تقريباً مختلفون، والقسم الثائر أو المعارض منقسم بطريقة قد تبدو غير مفهومة للآخرين.

السوري يفهم السوري الآخر، لا لأنه ينصت إليه جيداً، وإنما لأنه يعرف جيداً ما لا يريد الآخر قوله، ولأنه يعرف بالضبط ما تعنيه الصياغات الأخرى المراوغة أحياناً والمنافقة أحياناً أخرى. هذه الخبرة اللغوية بالآخر هي الأكثر فاعلية في الوسط السوري، وهي عملياً مصدر لفهم غير مُصرّح به من أطراف الحوار، وأيضاً مصدر لسوء تفاهم لا يبدو شكلياً عسير الحل. ضمن هذه الخبرة شبه المعممة، يصبح التعويل على أشده على زلات اللسان، لأنها تكشف بلسان صاحبها ما كان مُنتظراً منه قوله. وقد يكون مثار دهشة، مثلما هو مجال سيكولوجي وسوسيولوجي، أن تبقى حالة سياسية في وقت شديد الحساسية، وطنياً وإنسانياً، أسيرة انتظار زلات اللسان من هنا وهناك، وهي كما نعرف زلات يتراجع أصحابها عنها للعودة إلى اللغة العمومية السابقة.

في مقابل ذلك الخطاب الرسمي أو شبه الرسمي، تحفل وسائل التواصل الاجتماعي بأسوأ المسكوت عنه، حيث يتقدم الأسوأ الانفعالي والتعبوي متحللاً من «الخبرة» اللغوية المراوغة، ومتحللاً أيضاً من الأفق السياسي. سنرى من يوصفون بشبيحة الكلام من جميع الأطراف يبوحون بمكنوناتهم ومكنونات غيرهم على أسوأ نحو، وضمن مزاد من التردي لا يعبّر بدوره عن الواقع، بقدر ما يكشف عن غياب صياغات سياسية فاعلة تستوعب الحالة المُراد إبرازها.

ربما ساهم انعدام الفاعلية إزاء خارج متحكم في ترسيخ هذه الحالة، لكنها أيضاً دلالة على انعدام الفاعلية السياسية الداخلية، ولا تخلو من دلالة باتجاه عدم العودة إلى السياسة قريباً.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى