صفحات الثقافة

سوريا، حياة أدبية عبر أقلّ الدروب توقّعاً!/ فراس يونس *

 

 

تحوّلت المعلومات عن سوريا وما يجري فيها إلى خيال، في الصحف والإذاعة والتلفزيون كما في أفواه الناس، شأنها شأن رواية مفتوحة بلا غلاف، أبطالها رواتها وناشروها. ويشير التقرير السنوي الذي قدّمته لجنة حماية الصحافيين 2013، إلى أن سوريا هي المكان الأكثر فتكاً بالصحافيين، ما يعزز غياب الجهات الإعلامية الجادة، والغايات السياسية المباشرة التي تقف خلف كل نشر.. التي تصبح سرديات مبثوثة.

واقعٌ كالخيال؟

سبق للروائي ماريو بارغاس يوسا أن تناول هذا الأمر في روايته «قصة مايتا»: «لن يكون ما سأكتبه هو القصة الواقعية بالفعل، إنما رواية نسخة مختلفة جداً عن الواقع.. بعيدة عنه، بل مزيّفة إن شئت». ولكننا نتقبل الروايات المتناقضة في دخيلتنا كأمر نهائي ولا مفرّ منه. فما دامت مستحيلة معرفة ما يجري حقاً، فلماذا لا نختلق نحن السوريين، ونحلم، بل ونلتجئ إلى الوهم؟ لقد تحولت الحياة عندنا إلى «حياة أدبية عبر أقلّ الدروب توقّعاً». وهي أصدق إنباءً من السيف، على الرغم من كلّ ما تختزنه من احتمالات الشطط والمبالغة. يفعل ذلك المواطنون على اختلاف جبهات القتال ومناطق الجغرافية السورية، والقاسم الأبرز في «الروايات» كلّها هو الترويع الذي يتلقونه، سواء أكان إثر برميل يسقط من مروحية على حيّ سكني بذريعة إيوائه مجموعات مسلحة، أم إثر قذيفة هاون تستقر في مبنى مدني بمسوّغ وجوده في منطقة موالاة، أم إثر حملة من حملات المداهمة الأمنية والعسكرية.على مثل هذا الترويع الحقيقي والواقعي يتأسس خيال المفارقات وتنهض خصوبة اللامتوقع في سوريا. فالحقائق أقرب إلى الخيال، والسوريون خير من يعلم كم تكرّرت مثلاً حوادث تَدْخُل فيها مجموعةُ عساكر منزلَ عائلة سورية فيأمر الضابط الجندي المرافق له بأخذ العائلة إلى غرفة أخرى وتصفيتهم جميعاً. يمتثل الجندي. يأخذ العائلة الى الغرفة الأخرى. يقول لهم: «قفوا ووجوهكم إلى الحائط». يطلق النار على السقف قاصداً تفاديهم. يخرج إلى الضابط ليقول له كاذباً:«تمّت المهمة سيدي!». أو كقصة «أم أحمد التونسية» التي يقال إنها تبلغ الأربعين من العمر، واشتهرت بعنفها الشديد وقسوتها. وهي قيادية في تنظيم الدولة الإسلامية ـ داعش ـ في مدينة حلب السورية وتثير رعب السكان. تنفذ أم أحمد أحكام المحكمة الشرعية للتنظيم مهما تكن. وقد تمرّست على نحو خاص بتعذيب النساء اللواتي لا يرتدين اللباس الشرعي أو المتهمات بالزنا (تلك التهمة التي ندر أن ثبتت في التاريخ الإسلامي). يعلّق صديقي الحلبي أبو محمود ساخراً: في الإسكندرية كانت توجد ريّا وسكينة، ولا نعلم ما إذا كان لأم أحمد شريكة هنا!

مع انهيار جدار الخوف لدى السوريين، بات لدى المواطنين شيء من الحرية في تناول الجيش النظامي وبقايا الجيش الحر وما يلاقونه من معاناة على حواجزهم، وفوضى فتاوى الكتائب الإسلامية وعبثيتها، وغير ذلك من المواضيع… يدرك ذلك كلّ من يصغي إلى الحلبيين النازحين إلى مدينة اللاذقية، وعددهم يفوق المليون، وهم يقصّون معاناتهم من أطراف «الصراع الزائف في سوريا»، على حد وصف الكاتب الصربي سلافوي جيجيك. يستعين الحلبيون في رواية هذه القصص بقاموس عذاباتهم اليومي وما أفرزته أحوال وأهوال ما يجري، ويغذّونه ويؤججون ناره بصعوبة التواصل مع أحبائهم وهم على بعد عشرات الأمتار: احتاج حلبيّ الى قطع مئات الكيلومترات كي يصل إلى جثمان أمه المتوفاة في الحيّ المجاور لحيّه بسبب تقطيع أوصال المدينة وانتشار القناصة على أسطح البنايات. ومَن كابدوا اللوعة التي كابدها هذا الرجل أكثر من أن يُحصَوا.

طيران أطراف وسردية متنقلة

في رواية ماركيز الأشهر «مئة عام من العزلة»، تطير الفتاة أثناء نشر غسيلها على السطح ولا يجد الأهل لها أثراً. في سوريا، الأمر مختلف بعض الشيء. الفتاة كوثر في السابعة عشرة من عمرها، تساعد أمها في نشر الغسيل في اللحظة التي تطلق طائرة صاروخاً باتجاه مسجد قريتهم، بعد أن تسلل عناصر من «النصرة» إلى القرية وتمركز قادتهم في المسجد. نجم عن الصاروخ أن طارت كوثر عن السطح ولكنها عادت بعد ثوانٍ وحطت عليه من دون إحدى ساقيها. لم تقف الكارثة عند هذا الحد. فجدار إحدى غرف بيت كوثر المجاور للمسجد تداعى فوق جسد أخيها النائم الذي كان يُفترض أن يُقام حفل خطبته في مساء ذلك اليوم المشؤوم. والنتيجة: تحطّم وجه العريس وفكّاه وأُعطب في نواحي جسمه كلّها. قال لي، وهو يعلق على تلك اللحظة السوداء: «أُصبنا بالفزع والاضطراب. احتار الأهل من ينقذون أولاً. أسرع الجيران إلى مساعدتنا، ونقلونا إلى مستوصف كان فارغاً من التجهيزات والأدوية والعاملين!».

ما يميّز قصص الألم السوري هو ذلك التناقل الشفاهي لقصص وتجارب عبر «تبني» تجربة ما لـ«آخرين» وإحالتها إلى الراوي، كما لو أنها جرت معه، بالتفاصيل الحيّة لصاحب العلاقة الأصلي. ولا ضير أن يزيد الراوي ـ الرواة ـ شيئاً مما نسمّيه بـ«البهارات» بغض النظر عن معقوليتها أو عدمها. هكذا، تتراكم بعد فترة طبقة كثيفة ومعقدة من الأحداث والتفاصيل. وكم يفاجأ المرء حين يسمع قصته وهي تُتداول في منطقة أخرى وفي وسط اجتماعي آخر، ويضطر للتسامح في «حقوق النشر»، مهما تكن الأكاذيب الضرورية والتوابل المضافة.

مما يتداوله الحلبيون، في مزيج من السخرية والتندر، قصة خالد الحياني، بائع السمك في حيّ الأشرفية في حلب الذي تحول إلى قائد لكتيبة شهداء بدر، وما قامت به كتيبته هذه في ظل قيادته من أعمال فذّة، خطفاً وسرقةً. ويركّز الحلبيون بصورة خاصة على اتصال هاتفي أجرته مع القائد الحياني سيدة من سيدات المجتمع الحلبي يبدو أن لها معرفة سابقة بـ«حضرته»، وتهديدها له إن لم يُعِدْ مخطوفاً تكفّلت بإعادته لأهله، ولهجة الامتثال التي كان الحياني يخاطبها بها، واعداً إياها بالإفراج السريع عن المخطوف.

ما يخسره السوريون في السياسة قد يكسبونه في الأدب الزاخر بمعاناتهم، كما بخيالاتهم.. المشروعة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى