صفحات سوريةعمر قدور

سوريا… إلى النموذج اللبناني/ عمر قدور

 

 

حسب التسريبات، التي شاعت في الآونة الأخيرة، عن خطة المبعوث الدولي إلى سوريا دي ميستورا، لا حل في المدى القريب، لكن ستوضع المسألة السورية «تقسيطاً» على سكة الحل. أيضاً، وحسب التسريبات، لا ينبغي على السوريين توقّع حل يرضي طموحاتهم في البدء بمرحلة انتقالية، إذ من المرجح أن تستهلك الخطة في حال نجاحها سنوات قد تطابق ولاية بشار الأسد الحالية، ولو تحت زعم التخلص من عقدة بقائه في السلطة. الأهم مما سبق هو أن الخطة تظهر كأنها تأخذ البلاد إلى نوع من تقاسم السلطة والنفوذ، بما يرسخ الأمر الواقع العسكري الحالي وحسب، وبما يرسخ موازين القوى الإقليمية ومقدار نفوذها في الساحة السورية.

مرة أخرى، على افتراض نجاح الخطة، فإن ما تفعله هو أخذ سوريا من وضع يشبه «عراق المالكي» إلى وضع أشبه بالنموذج اللبناني الحالي. فالهيمنة الإيرانية المطلقة لن تبقى على حالها، وستضطر إيران إلى تقديم تنازلات، وإلى القبول بمبدأ المشاركة مع لاعبين إقليميين آخرين، في مقدمهم تركيا والسعودية، مع ميل أميركي واضح إلى استبعاد تركيا أو تحجيم دورها إلى أقصى حد. إيران هي أول من بادر إلى طرح خطة شبيهة بالخطة الحالية، وهي التي أشرفت بشكل مباشر على بعض الهُدن المحلية في ريف دمشق وحمص، وسوّقت لنفسها كضامن وحيد لأي وقف لإطلاق النار. من جهة أخرى، حذا حزب الله حذو إيران فأبرم بعض التفاهمات، مع ثوار القلمون على سبيل المثال، وعقد صفقات لتبادل الأسرى، في وقت ظل فيه النظام السوري خارج منطق التسويات والصفقات مثلما بقيت الصفقات ممنوعة على الدولة اللبنانية، وكأن لسان الحال ينطوي على احتكار الصفقات والتسويات فقط من قبل الإيرانيين، والدائرة المقربة جداً من الحرس الثوري.

بعبارة أخرى، لم يعد النظام السوري شريكاً في الحل، إلا وفق ما تراه إيران مناسباً، ولم تعد المعارضة السورية شريكة في الحل إلا وفق ما تراه دول إقليمية أخرى مناسباً، وعلى اللاعبين المحليين تهيئة أنفسهم لعهد طويل من الارتهان المباشر للأجندات والصراعات الإقليمية التي لن تجد لها حلاً في الأمد القريب. الأمر لا يتعلق بأن المسألة السورية صارت خارجية بفعل التدخلات الخارجية التي برزت منذ سنتين، وإنما يتعلق أيضاً بإعادة رسم خريطة التوازنات الجديدة في المنطقة على ضوء مسارين يحكمانها؛ الأول هو التحالف الدولي ضد داعش، والثاني هو مسار المفاوضات في الملف النووي الإيراني. فالتحالف ضد داعش، كما أُعلن عن ذلك مراراً، سيستغرق سنوات طويلة من العمل على مكافحة «الإرهاب»، أما المهلة المحددة لانتهاء مفاوضات الملف النووي فهي عرضة للتمديد، على الأقل طالما بقيت الإدارة الأميركية الحالية. إذاً، لا حسم يلوح في الأفق على النحو الذي يتمناه السوريون أو يتمناه النظام، وفي وسع الأخير ممارسة هوسه في الإبادة طيلة مدة «السماح» هذه.

الديموقراطية غير مناسبة لسوريا؛ عبارة يكاد يقولها الجميع، ويتبناها الغرب عموماً مع تفاوت في قوة إعلانها. مسألة التركيز على حماية «الأقليات» لم تبرز إلى واجهة الاهتمام الغربي مع داعش، وإنما برزت مباشرة في التصريحات الأميركية مع مستهل الثورة السورية، أي أنها منذ ذاك الحين كانت تؤسس للتعاطي الغربي مع مسألة التحول في سوريا. وحيث تمتلك سوريا «أكثرية» صريحة، وفق المنطوق الأميركي، لا يمكن فهم التحول الديموقراطي إلا بوصفه خطراً على «الأقليات»؛ هذا واحد من الأسباب التي أدت إلى تلكؤ الإدارة الأميركية في الشأن السوري، لأن الوصفة المناسبة لتقاسم السلطة لم تنضج محلياً بعد، ولم تنضج إقليمياً عطفاً على ارتباطها بمفاوضات الملف النووي الإيراني، وعطفاً على حماسة بعض الدول الإقليمية لإسقاط نظام الأسد بمجمله، الحماسة الذي جرى ويجري امتصاصها بواسطة الحلف ضد داعش.

المسألة لم تتوقف يوماً عند «طمأنة الأقليات»، مثلما تزعم بعض دوائر صنع القرار ويلحقها من يريدون الاستفادة من هذه المقولة. الأقرب إلى الواقع، أن «طمأنة الأقليات» على النحو الذي تُسوّق به لا يعني رسائل تبعثها المعارضة بصفتها المرشح للحلول مكان النظام، وإنما تعني تحديداً مقدار وأهمية ما يُمنح للأقليات من كعكة السلطة الجديدة، وعلى نحو أكثر دقة مقدار السلطة الكافي لجعل «الأقليات» تتجاوز عقدة النقص العددي، لتكون شريكاً مساوياً تماماً للأكثرية العددية. المساواة المقصودة هنا ليست مساواة قانونية، ولا تذهب أبداً إلى إقرار بعلمانية الدولة ووقوعها على مسافة واحدة من الجماعات والأفراد المتساوين بحكم الدستور والقانون، وبهذا فهي ليست تمكيناً للأقليات على المستوى الحقوقي، وإنما هي إقرار بأولوية السلطة على ما عداها، واعتبارها تالياً الوسيلة الوحيدة لتمكين الجماعات الطائفية والعرقية، ولو أتى ذلك، ولا بد أن يكون هكذا، على حساب حرية الأفراد.

النموذج اللبناني هو «خير» ما يمكن استلهامه لتحقيق الرؤية الأميركية، لأنه يمنح قدراً كبيراً من الحرية للجماعات الأهلية، ويُضعف الدولة المركزية بفعل تقاسمها دستورياً، ولو أدى هذا إلى نوع من الإقطاع السياسي المستدام. وكما انتهت الحرب اللبنانية بعد عقد ونصف إلى صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، يظهر أن الحل المبتغى في سوريا يتلخص في الصيغة نفسها، مع أن «الدولة» اللبنانية لم تكن شريكة في الحرب على غرار النظام السوري الآن. الأهم هو وضع كافة الجرائم التي ارتكبت فيما يسميه الغرب «الحرب الأهلية السورية» تحت بند الانتهاكات المرافقة «عادةً» للحروب الأهلية، وتالياً عدم محاسبة مرتكبيها، بل مشاركتهم في السلطة الجديدة المنبثقة عن الحرب ذاتها. على ذلك نفهم التقارير الدولية عن انتهاكات متعددة الأطراف في الحرب السورية، ونفهم تقاعس المجتمع الدولي عن الدفع بتلك التقارير في مجراها القانوني المفترض، أي التقاعس عن إنذار كافة مجرمي الحرب بالمثول أمام العدالة الدولية، فيما يُفهم على نطاق واسع تشجيعاً لهم على مزيد من جرائم الحرب، التي يتصدرها النظام على مسافة أميال من أمراء الحرب الآخرين.

ومثلما أصبح لبنان ساحة، تتفاوت درجة حرارتها بحسب التوازنات أو الصراعات الإقليمية، ستتحول سوريا إلى ساحة مشابهة، بحيث يمتلك النفوذ الإقليمي القدرة على التعطيل في حالة الصراع، وبحيث تتوقف الدولة على نوايا اللاعبين المحليين المرتبطين مباشرة بالسياسة الإقليمية وتوازناتها. الدولة بوجهها المدني لن تكون هي الأساس للجميع، بعد تمزيقها إلى أجهزة أمنية وأخرى مدنية، وتقاسمها على نحو يتيح للشركاء الكبار تعطيلها اقتصادياً أو أمنياً. من المرجح وفق هذا التصور أن تُمنح «الأقليات» وضعية تشبه وضعية حزب الله في لبنان، أي وضعية وازنة عسكرياً وأمنياً، في مقابل الثقل الاقتصادي المفترض للأكثرية، حيث من المطلوب أيضاً أن تتموضع الأكثرية كمجموعة متماسكة ومنضبطة، وأن تغادر موقعها الأكثري السابق على الثورة، لأن التصور الجديد يفرض عليها أن تصبح طائفة معنية بمصالح «أبنائها» وحسب.

بالطبع، ثمة عيوب في النموذج اللبناني، لا يقصّر اللبنانيون أنفسهم في التململ منها، لكن هذا لا يعيق تطبيقه في سوريا، إلا لمن يعتقد أن القوى الدولية والإقليمية تسعى إلى نموذج سوري خالٍ من العيوب. فجزء من أهمية النموذج اللبناني يكمن حقاً في أنه نموذج متحرك، ولا يمتلك صفة الديمومة أو الاستقرار، والجزء الذي يتعلق باتصاله بالمصالح الخارجية تحديداً حيوي لجميع القوى النافذة، بما أنه يمنحها المساحة الأمثل للّعب خارج حدودها. لقد قيل سابقاً عن المبعوث الدولي «الأخضر الإبراهيمي» أنه يحضّر لطائف سوري على غرار دوره في الطائف اللبناني. فشل الإبراهيمي في مهمته قبل أن يجرّب مهارته، التي يبدو أن المبعوث الدولي الجديد يستلهمها الآن.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى