صفحات العالم

سوريا: إنهاك القمع وعلم الجراثيم


عبدالله بن بجاد العتيبي

أصبح واضحاً أنّ الاحتجاجات السورية في تصاعد من جمعة لأخرى، بل من يوم ليومٍ، فقد انتقلت الاحتجاجات من يوم الجمعة لبقية الأيام، فكان الخميس الماضي هو خميس “بركان حلب” على سبيل المثال، بالمقابل يمكن رصد مؤشراتٍ تدلّ على إنهاكٍ ما بدأ يعتري الجيش والأجهزة الأمنية السورية مع استحضار أنها واحدة من أقوى الأجهزة الأمنية في المنطقة، وأنّها كانت منذ بدء الاحتجاجات عصب قوّة النظام.

هذا الإنهاك يمكن استنتاجه منطقياً بحساب سهل، فالشعب السوري حسب الإحصاءات الرسمية تجاوز الاثنين وعشرين مليوناً، والجيش السوري حسب ويكبيديا تعداده 320000، ولم أعثر على تعدادٍ للأجهزة الأمنية، ومع افتراض أنها توازي الجيش أو ضعفيه فإن العدد الإجمالي لا يتجاوز المليون، والمنطق يقول إنّ إصرار عشرين مليوناً أو نصفهم أو ربعهم على التظاهر يجعل قدرة المليون عسكري وأمني ضئيلةً في مواجهتهم، قد تنشط هذه الأجهزة العسكرية والأمنية لشهر أو شهرين، ولكنّهم سيصابون بالإنهاك في النهاية، خاصة أنّهم أصحاب وظيفةٍ يؤدونها بلا شغفٍ وليسوا كمقابليهم أصحاب أهداف وأمنيات عريضة.

بعيداً عن المنطق وعلى أرض الواقع، فإن ما جرى في مدينة حماة في الجمعة الماضية “جمعة إرحل” مؤشر على هذا الإنهاك، فقد انسحب الجيش والأجهزة الأمنية من المدينة، فخرج نصف مليون متظاهر حسب بعض وسائل الإعلام، كما خرجت جميع المحافظات السورية في تظاهراتٍ متفرقةٍ، يهمّنا هنا أن نسجل أنّ المظاهرات تكبر ولا تصغر، تنتشر ولا تتقلص، تنشط ولا تنهك.

مؤشر آخر هو انضباط الجيش السوري في بدء الاحتجاجات، ولكنّه في الأسابيع الأخيرة بدأ يشهد انشقاقاتٍ فرديةٍ وجماعيةٍ لم تصل بعد لتشكيل تهديدٍ حقيقي للنظام، ولكنّها هي الأخرى تتزايد، مؤشر آخر هو أنّ المظاهرات بدأت تصل لحلب ودمشق، فخرج عشرات الآلاف بحسب وسائل الإعلام في حلب، وخرجت احتجاجات في أكثر من مكانٍ في دمشق، مظاهرتان في الميدان، وفي حي القدم وفي البرزة وغيرها، ما يعني أن الاحتجاجات قد وصلت للعاصمتين الرئيسيتين في سوريا، السياسية والاقتصادية.

في الجانب الآخر، نجد أن الاحتجاجات أو جماعات التنسيق للاحتجاجات قد استطاعت أن تتجاوز كل قوّة وعنف وبطش الأجهزة الأمنية وكل قمع وتسلّط الجيش بأساليبها الخاصة، فأصبح حراكها أوسع من قدرة الجيش على الاحتمال، وانتشارها أقوى من قدرة الأجهزة الأمنية على المتابعة، والملاحظ أنّ هذه الاحتجاجات تسير بأبطأ من قدرتها الحقيقية على التأثير، ولكن ربما كانت هذه استراتيجية تتبعها.

هذه التنسيقيات لم تبادر بعد للاتجاه للمقرات الحكومية حيث الاتصالات والتنسيق وإدارة الدولة، ربما لأنها تريد الحفاظ على شرعيتها السلمية، وربما لأنها لم تزل عاجزةً عن هذا الفعل، وربما وهو الأقرب أنّها تريد النجاح في إخراج أعدادٍ أكبر إلى الشوارع لتقارع النظام، خاصةً أنّ حاجز الخوف قد انكسر منذ مدّةٍ، وهو ما تريد أن توسّعه وتنشره على أوسع نطاقٍ.

فشل النظام السوري في التعامل مع الأزمة الداخلية واضح، فهو حاول نقل بؤرة الاهتمام عن المدن الرئيسية بعملياته في جسر الشغور والمهجّرين بالآلاف إلى تركيا فلم ينجح، وحاول جمع المعارضة في دمشق لينزع المشروعية من احتجاجات الشارع ومن معارضة الخارج فلم ينجح، وحاول إلهاء الناس بخطاباتٍ سياسية طويلة بلا قيمة فلم ينجح، وبالطبع فأهم محاولاته هي القمع والدموية، وهي أكثر فشلاً من غيرها كما أبانت الأحداث.

إقليمياً، يبدو حلف الممانعة مع إيران و”حزب الله” آخذ في الضعف والتفكّك، فإيران تعتقد أنّ سقوط النظام في سوريا يعتبر قاصمة ظهرٍ بالنسبة لها، ولهذا تدفع باتجاه مساعدته بشتى الطرق، ولكنّ واقع إيران وواقع سوريا على الأرض يقول إن إيران لا تستطيع حمل سوريا بكل مشاكلها على ظهرها المهدود أصلاً باحتجاجات الداخل الإيراني ومشاكل الدولة الإيرانية.

“حزب الله” الذي كان يساوم عليه النظام السوري صدر بحق بعض عناصره في هذه الظروف التي يعجز النظام عن معالجتها قرار اتهامي من المحكمة الدولية، تمّ تسليمه للبنان واضطربت الحكومة الحالية في التعامل معه.

صدر القرار الاتهامي للمحكمة الدولية في اغتيال الحريري في توقيتٍ مهمٍ ربما كان مسيساً كما يطرح نصر الله وربما لا، ولكنّه في النهاية صدر، وعلى إيران وسوريا ونصر الله التعامل معه في ظل الظروف الكبيرة المحيطة بهم، كانت ردة فعل نصر الله في خطابه المتلفز متوقعةً، فهي جاءت مبنيةً على أنّ خير وسيلةٍ للدفاع هي الهجوم، فأقام ما يمكن تسميته محاكمة المحكمة الدولية، ولكن يبقى السؤال الكبير ما الذي يستطيع الحزب فعله تجاه هذه المحكمة الدولية بكل احترامها القانوني الدولي والموقف الدولي الداعم لها بكل قوةٍ؟ الجواب لا شيء سوى التركيز على الداخل اللبناني والتهديد المبطّن خلف عبارات الحكمة والتعقل.

دولياً، أصبح النظام السوري يخسر كل يومٍ حليفاً من تركيا إلى روسيا ولم يبق له إلا الصين، وليس لدى النظام السوري ما يقدّمه للصين لتخالف العالم كلّه لأجله، ولكنّ الصين تنتظر ما يقدّمه العالم لها من حوافز للتخلي عن النظام هناك.

إنّ صراع المصالح الكبير الذي يدور اليوم صراع حقيقي ومؤثر على مستقبل المنطقة والعالم، فهو صراع لا يحدث إلا نادراً في الحقب التاريخية بهذا الرتم السريع وهذا التشعّب الكبير، تركّزت تجلياته الكبرى في الشرق الأوسط، ولكنّ أبعاده الكاملة تلفّ العالم أجمع.

روسيا مثلاً تخسر أصدقاءها في المنطقة، وتأتي دائماً كردة فعلٍ لا كفعلٍ، بمعنى أنّها ترفض ابتداءً وتعارض، ولكنّها لا تلبث أن تتخلّى عن الأنظمة التي تقول إنها تدعمها، موقفها من ليبيا مثال واضح، وتصريحات بعض مسؤوليها مؤخراً تجاه سوريا، وأنها تعتبر أن الأنظمة تذهب وتجيء والباقي هو الشعب، وهو ما تتعامل معه. يؤكد أنّها لا تمانع في التخلّي عن أي نظامٍ إن رأت مصالحها لا تلتقي مع مستقبله، وتاريخ روسيا مفيد هنا، فعلاقتها بالعراق تخلت عنها في أزمة الخليج الثانية لصالح تحالف دولي ولأموالٍ قبضتها، وتلك قصة معروفة.

أخيراً، يقول الباحث الأميركي “كرين برينتن” في كتابه الجميل “تشريح الثورة” ص39 مستعيراً من علم الجراثيم حسب قوله “سنعدّ الثورات نوعاً من الحمّى .. وفي المجتمع أثناء الجيل الذي سبق اندلاع الثورة .. توجد علاماتٍ على الاضطراب المقبل .. ثم يحين الوقت عندما تكشف الأعراض التامة عن نفسها وعندما نستطيع القول إنّ حمّى الثورة قد بدأت. وتتصاعد هذه الحمّى ليس على نحو منتظم، بل بالتقدم والتراجع، إلى أزمة مصحوبة بالغثيان وحكم الثوريين الأكثر عنفاً” ثم يقول: “ولتطوير الاستعارة فإنّ الحمّى تحرق الجراثيم الشريرة”.

ربما كان هذا النقل مفيداً لرئيس يعرف علم الجراثيم وينبز شعبه بها، وربما كان مفيداً له أكثر أن يستمع للحكمة الصينية القديمة التي تقول: “دبّر الأمر قبل أن تحرّك الجيوش”.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى