حازم نهارصفحات سورية

سوريا: اسئلة الدولة والثورة/ حازم نهار

 أنجبت الثورة السورية تطوراً سياسياً كبيراً، تولّد عنه صعوبة كبيرة في إقناع السوريين بأي شيء من دون تلمس نتائج واقعية، وأصبح لديهم (وهذه فضيلة كبيرة) عدد من المسائل البديهية في مقاربة الأمور، ومنها: عدم تصديق النظام السوري وإعلامه، والتشكيك بكل ما يصدر عنه، عدم تصديق الدول ووزرائها وسفرائها وقادتها، فليس كل ما يقولونه يقصدونه أو ربما يكون لهم مقاصد أخرى،  عدم الثقة بالمعارضة، خاصة أصحاب الأصوات العالية والوعود الفارغة، ونزع القدسية عن كل من يظهر في الإعلام، والتشكيك بجميع القنوات الإعلامية، فليس كل ما يصدر عنها نزيه أو مجرد من المصالح، مع اختلاف نسبة الكذب بينها بالتأكيد، وعدم الثقة بأصحاب الأيديولوجيات، بخاصة مع اختلاف مواقفهم السياسية، وعدم تصديق أي شائعة من دون دلائل لكثرة الشائعات التي ظهر كذبها خلال عامين ونصف، و اكتشاف أن الصبر عامل مهم في النجاح، بحكم الفترة الطويلة والمعقدة التي شهدوها منذ آذار 2011، إضافة إلى معرفة بقاع الوطن السوري وطبيعة الناس في كل منطقة وهواجسهم وأحلامهم ومخاوفهم، وتغير معايير الاحترام للأشخاص التي كانت سائدة قبل سنتين ونصف، فضلاً عن فهمهم للمحاور والتحالفات والمصالح الدولية الموجودة وعلاقتها ببلدهم. لقد بات معظم السوريين اليوم يتحدثون في السياسة، ويعرفون هذه البديهيات، وهذا تقدم سياسي كبير يجعل من الصعوبة بمكان خداعهم أو تضليلهم من أي جانب كان، ومن الوهم أصلاً الاعتقاد بإمكانية خداعهم.

 النقطة الثانية: العلاقة بين المعارضة والسوريين

إذا كان السياسي أو المثقف يبني خياراته ومواقفه بالاستناد فحسب إلى رأي الناس في لحظة معينة فلا ضرورة لوجوده، إذ لا معنى لوجوده إذا لم يكن قادراً على التأثير في رأي الناس ومالكاً لرؤية استشرافية للمستقبل بعد فهمه واختزانه لمعطيات الماضي والحاضر. بالمقابل إذا كان هذا السياسي أو المثقف يبني خياراته استناداً للأيديولوجيا التي يحملها فحسب فهو حكماً في عداد الموتى ولا ينتج إلا الشعارات وسياسات مفتقدة للحياة.

 نقد تفكير الناس وممارساتهم أمر مهم، لكن بالاستناد إلى روح التواضع والتضامن معهم ومع آلامهم وآمالهم. فخطاب “الشماتة” و”الاستعلاء”، والخطاب الذي يبدأ بـ “لقد حذرنا..” أو “قلنا لكم منذ عام..” أو “أثبتت الأحداث صوابية توجهاتنا…”، والخطاب الذي يجتر الحديث في الشعارات والبديهيات، التي كان يمكن أن يحاضر فيها أي طفل سوري لساعات في بداية الثورة، من دون تناول الآليات والوسائل والتفاصيل والمشاركة في تخفيف المخاطر، لن يتفاعل معه أحد، وواهم كل من يعتقد أن السوريين يمكن أن يتفاعلوا أو يحترموا أصحاب الشعارات المجردة، فلو أراد الناس الاستماع لأحزاب المعارضة الأيديولوجية من البداية لما كان هناك ثورة أصلاً.

 لا يكفي إطلاق الشعارات النبيلة، بل لا بدّ من المثابرة واجتراع الآليات المناسبة في كل لحظة سياسية، كما ينبغي من خلال خطابنا أن يشعر الناس أننا نفهم معاناتهم ونشعر بهم ونحترم تضحياتهم حتى لو كنا لا نتفق مع آرائهم وبعض ممارساتهم.

النقطة الثالثة: ترف فكري

 قد تبدو  هذه الندوة في موضوعاتها ترفاً فكرياً لا قيمة له في نظر العديد من السوريين، خاصة أولئك الواقعين تحت الحصار ويتعرضون للجوع والقصف والاعتقال وامتهان كرامتهم، ولسان حالهم يقول: نحن نموت وأنتم تناقشون تصوراتكم لسورية المستقبل، نريد من يرفع عنا الموت الآن وهنا، أو كما واجهني أحدهم بالسؤال: هل بإمكان محاضراتكم وندواتكم إيصال ربطة خبز لمنطقة محاصرة؟ هل بالإمكان وقف شلال الدم من خلال الرسم بالكلمات؟  إنها أسئلة طبيعية وبديهية وصادقة…. ومؤلمة بالتأكيد.  وهنا يفترض بالسياسيين والمثقفين أن يحملوا في قلوبهم وعقولهم احتراماً وتقديراً كبيرين لمشاعر أولئك البشر.

 هذا لا يتعارض بالتأكيد مع منطق العمل السياسي الصائب، فقد سادت مقولة خادعة منذ انطلاقة الثورة مفادها “تعالوا لنسقط النظام أولاً، وبعدها لكل حادث حديث”، فهذه المقولة فضلاً عن سذاجتها لا يمكن أن تنال احترام جميع السوريين الذين مهما اختلفت مواقعهم وانتماءاتهم يريدون الاطمئنان إلى مستقبلهم ومستقبل بلدهم، لا يمكن أن يكون هناك عمل سياسي توافقي جاد ومثمر في الواقع الراهن إذا لم يكن هناك اتفاق على سورية المستقبل.

 يضاف إلى ذلك أن الكثير من القضايا التي شهدناها واقعياً خلال الفترة الماضية لا يمكن أن نحدِّد مواقف صائبة إزاءها من دون رؤية إزاء المستقبل، فهذه الرؤية هي التي تسمح لنا بانتقاد واضح لتصرفات الكثير من الجماعات المسلحة وردات الفعل الطائفية التي برزت هنا وهناك رداً على العنف العاري للنظام وممارساته الطائفية المقصودة، وهي أيضاً التي تجعلنا نتخلى عن الخطابات الغوغائية التي لا طائل منها في عالم يقوم على المصالح العارية ولا يكترث بحياة السوريين.

 لقد كان الأداء السياسي خلال الفترة الماضية قائماً على “السبحانية” التي تمظهرت في كل حركة وفعل، إذ لا توجد خطة ولا ترتيب للأولويات ولا حساب للزمن ولا علاقات مدروسة ومحسوبة ولا بوصلة سياسية واضحة ولا مراجعة للتجربة، وتترك كافة أمور الثورة والبلد على “التجلي” أو انتظار هطول الأمطار بفضل رب العالمين.

لذلك نقول إن الثورة، وسورية أيضاً، بحاجة إلى الفكر والسياسة، فهما اللذان يسمحان بتكوين تصور واضح لكل ما يحيط بنا ولكل ما نحتاجه: فهم اللحظة السياسية، التكتيك، الاستراتيجية، القواسم المشتركة، المصالح العليا، المراحل والخطوات، عناصر الخطاب السياسي والإعلامي، تقاطع المصالح، التمييز بين الموقف السياسي والتحليل السياسي، آليات العمل، الأهداف المباشرة والأهداف البعيدة، العدو المؤقت والعدو التاريخي، موازين القوى الواقعية، الرأي العام، وسائل الضغط وحدوده، نضج الأحوال، منطق العصر، تنابذ الأيديولوجيا والسياسة، مراكمة الانتصارات الصغيرة، وفوق كل ذلك الصبر السياسي، والذاكرة السياسية، والقدرة على إنتاج الحلول والمبادرات في اللحظات السياسية العصيبة.

 النقطة الرابعة: ضرورة الحوار والتواضع

كان يمكن للحوار الجدي والعميق داخل التشكيلات السياسية، وفي ما بينها، أن يقدِّم نتائج توافقية حول الكثير من القضايا الخلافية، لكنه لم يحصل، فقد كانت اللحظة السياسية، على ما يبدو، ضاغطة على أعصاب الجميع إلى الحد الذي نظروا فيه للحوار السياسي بوصفه ترفاً. ولذلك اختزلت الممارسة السياسية إلى مجرد شعارات ولقاءات مع السفراء ومقابلات إعلامية، وفي ضوئها تشكلت استقطابات وخلافات سطحية وساذجة وغير مفهومة أحياناً حتى من أصحابها.

 في غياب الحوار، كان هناك استسهال في تحديد الموقف تجاه أي حدث بسرعة وببساطة، ولا مسؤولية طاغية في التصريحات واللقاءات الإعلامية. وحتى اللحظة لم يجد النجوم الإعلاميون مرآة ينظرون فيها كي يسألوا أنفسهم فيما إذا كان أداؤهم صحيحاً أم لا. على العكس هم مستمرون ولا يشعرون أنهم بحاجة للحظة تأمل.

 كان يمكن أيضاً للاقتناع بكلمة “مؤقت” أن يخفِّف الكثير من مشاكل المعارضة. فلو اقتنع الجميع، قوى وأفراداً، أن كافة التشكيلات السياسية القائمة اليوم هي تشكيلات مؤقتة، وأن المرحلة المقبلة ستعيد ترتيب واصطفاف القوى السياسية والبشر، لكان من الممكن التعامل بهدوء مع معظم الإشكالات المطروحة، والمساهمة في تخفيف حدة التوتر والتنافس السلبي.

 معضلات الحوار بين البشر عديدة، وحلها يحتاج إلى تدريب متواصل، والتحلي بشيء من “طولة البال” والصبر في التعاطي مع أي خلاف في الآراء. ولعل تعقيد المشاكل والمواقف والتدخلات في سورية هو ما يجعل الجميع مستفَزين ومستنفِرين على طول الخط، وهذا يجعل الحوار صعباً ويمنع أي تراكم إيجابي فيه، مثلما يخلق حالة من القطيعة بين الناس نتيجة مواقف بسيطة أو مؤقتة، مع أن التفكير الحكيم يرى أن من تعتقد أنه “عدوك” اليوم قد يكون خير نصير لك في لحظة ما.

 لم يعد مقنعاً أبداً القول أن المعارضة لم تمارس السياسة في الماضي ولذلك كانت أخطاؤها كثيرة، خاصة بعد مرور أكثر من عامين على الثورة، فالأطفال السوريون قد تعلموا الكثير خلال هذه الفترة. ثم إنه ليس من الحكمة أبداً تسليم أمور السوريين في هذه اللحظة إلى من يتعلمون ويتدربون ويجربون.

 النقطة الخامسة والأخيرة: سؤال الدولة المستقبلية

 إن جزءاً لا يستهان به من الإرباكات والخلافات الموجودة اليوم سببه في الحقيقة عدم التوافق على الدولة السورية الجديدة.  باعتقادي ينبغي هنا الخروج من النقاش العقيم، الذي جربته بلدان كثيرة، حول صفات الدولة المستقبلية: هل هي إسلامية أم مدنية أم علمانية. إذ ينهك الجميع أنفسهم في تناول صفات الدولة، بينما فكرة الدولة ذاتها غير واضحة في أذهان الكثيرين. فالدولة الوطنية الحديثة لا تحتاج إلى أي أيديولوجية أو معتقد من أي نوع. إنها كائن سياسي وقانوني محايد إزاء كافة الأيديولوجيات والعقائد والمذاهب والطبقات والفئات والأفراد، ولن تكون دولة جميع السوريين إلا إذا كانت كذلك.

 الأديان والعقائد خاصة بأصحابها، فيما الدولة شأن عام يخص جميع المواطنين. وأي انتقاص لهذه الصفة العمومية للدولة فإنما يقوِّض أسسها البديهية، لأنه يجعل منها دولة خاصة بطرف معين. العقائد والأديان والمذاهب والأيديولوجيات خاصّة بأصحابها، بينما الدولة تبنى على ما هو عام وليس على ما هو خاص.

 السوريون مطالبون اليوم بإعادة بناء الهوية الوطنية السورية بالانطلاق من الواقع الحاضر وآفاق المستقبل، وليس الركون إلى الأصول والموروثات، وذلك على اعتبار أن الهوية، هوية أي فرد أو مجموعة بشرية، هي كائن متجدِّد على الدوام، وينبغي إعادة بنائها في كل لحظة من حاجات الواقع الراهن وأفق المستقبل، وليس النظر إليها باعتبارها شيئاً تكون في الماضي وانتهى.

 كل هذا يعني في هذه اللحظة ضرورة وضع الثلاثية التالية: الدولة السورية، الشعب السوري، المواطن السوري، كأساس ومرتكز ومنطلق للتعاطي مع أي قضايا أو إشكالات آنية أو مستقبلية مطروحة على السوريين. أما أحاديث الأيديولوجيا والعقائد والمذاهب والأعراق والطبقات فميدانها المجتمع المدني السوري المنفتح على كل الآراء والمصالح.

 (مقتطف من كلمة القيت في ندوة “خطة التحول الديمقراطي في سورية” التي عقدت في المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة)

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى