رستم محمودصفحات سورية

سوريا…البلاد الغامضة


رستم محمود

في أغلب اللقاءات، منذ بدء الثورة، يبدي أصدقاء غير سوريين رغبتهم الجمة بزيارة سوريا بعد انتصارها، أصدقاء من منابت ودول وتوجهات شتى. لا تجذبهم في ذلك رغبة السائح، بل إغراء المستكشف. فسوريا بتاريخها الحديث، وبثورتها، بلاد غريبة غامضة بالنسبة لهم، على اختلاف نوعيات وطبقات وعي هؤلاء الاصدقاء، وعلى اختلاف مستويات علاقتهم المباشرة وطبيعة مواقفهم السياسية، من سوريا وشعبها ونظامها الحاكم. فالجذر المشترك لهوية وعي كل الأصدقاء لسوريا كيانا وشعبا هو الغموض والغربة. يريد هؤلاء الأصدقاء إن يمارسوا في استكشافهم المتأمل في سوريا المستقبل، رغبات بسيطات وغريبات في الآن ذاته. يريدون المشي في شوارع دمشق القديمة، وتناول الطعام في مطاعمها، يرغبون بمحادثة بسطاء الناس، هؤلاء الذين باتوا حديث العالم بأسره في ثورتهم النبيلة. يريد هؤلاء الأصدقاء فهم تلك البلاد بالأساس، علاقة الناس ببعضهم البعض وبالطوائف والقوميات والمذاهب والحكايات والذاكرة، تلك الأشياء التي تعج بها تلك البلاد أكثر من غيرها بما لا يقارن. ويريد الأصدقاء في الآن ذاته فرز رؤيتهم التي اكتشفوا مدى وهمها، مع بدأ الثورة، وهمٌ كان يفهم تلك البلاد وكأنها أقبية مخابرات وغابات لأجهزة الأمن فقط، حقلاً عظيمة لفرز العمال، وجغرافيا ضخمة لإنتاج البؤساء والخانعين. ليتكشف هؤلاء الاصدقاء، بأنه في المكان نفسه، ثمة أغنيات لا توصف، أغنيات تسرّ أمهات الشهداء، وفي تلك البلاد ثمة استماتة لطلب الحرية، وبأي ثمن كان، وثمة استعداد لبذل كل شيء في سبيلها، كما في تلك البلاد الكثير من الضحكات والرقصات والأشعار والسينما والنكات والمآذن والأجراس والرسوم والمفارقات.. الخ، واشياء أكثر وأكثر، تغري كلها بالاستكشاف.

على خطى هؤلاء الأصدقاء غير السوريين، الرغبة نفسها تملي قلوب غالبية غالبة من السوريين أنفسهم. كثيرون هم السوريون الذين يريدون زيارة أكثر من بلدة ومدينة نائية من أماكن بلدهم، يريدون المشي في حواري مدن سوريا الكبيرة للتعرف على ناسها والعيش معهم. يريد السوريون معرفة بلادهم خارج رهاب المخيلات والمقولات الجاهزة والمتبادلة فيما بينهم، يريدون القفز فوق حيطانهم النفسية ومغادرة سجونهم الداخلية التي بنيت لهم لعقود مديدة. كثيرون هم السوريون الذين يريدون قضاء شهر عسلهم على تلك التلة عند تخوم بلدة كفر نبل، يريدون معرفة شاعر بلدة عامودا أو شعرائها، يريدون زيارة كل الناس في بابا عمرو، وسماع قصص الناس كلها هناك. ثمة رغبة لا توصف في قلوب السوريين للعدو ذهابا وإيابا مثل شباب بلدة صيدا الحورانية، كيف سبقوا الرصاص بعدوهم، وبعضهم آثر الموت في سبيل سحب جثة صديقه الذي وقع بالقرب منه، يريدون زيارة بلدات دمشق وقرى حلب وتلال حماة وحجارة حوران، وقبل كل شيء، معرفة سر الماء في حمص . على خطى الأصدقاء، يرغب السوريون كسر وهمهم عن أنفسهم وعن بلادهم. أنفسهم التي قالوا أنها منذورة لهذا الشكل المنحط من الحياة فحسب، وبلادهم التي قالوا عنها جغرافيا للتباغض والخشية فقط.

سوريا خزان الهويات المشرقية، ومعبر هجرات العالم التاريخية العظيمة، وسوريا بلاد الانتشار الجغرافي المديد، من سهول الجزيرة إلى سهول الحوران، مرورا بالصحاري، والجبال الساحلية، من ريفها العامر إلى مدنها الداخلية التي تحمل كل الإرث الروحي والاجتماعي والثقافي المركزي لمساحة تفوقها بأضعاف، كانت خلال عقود حكم الأسدين، تسمية مجردة وصماء، لا أحداث فيها ولا تغيرات بنمط جريانها، مكان من دون عالم داخلي أوخيارات أوهويات أوعوالم، نادرا ما يظهر خبر عنها في نشرات الأخبار، عنها ككيان إنساني وحضاري. كانت تتدخل بكل تفاصيل وسياسات جيرانها، لكن لا داخل لها أبدا، ربما كان ذلك بالضبط ما يسمح لها أن تتدخل بكل ثقة وجبروت. سوريا التي لم يتمرد فيها أحد على أحد (مرة تمرد الأخ على أخيه، حلت عائليا، ولم يخرج الموضوع حتى لنشرة الأخبار الرئيسية). وفي سوريا لم يعرف أحد كيف كانت تسير شؤون البلاد، اين تذهب أمواله وكيف تجبى، ماذا يصرف منها وبأي اتجاه ولماذا ذلك ؟؟!!، ولم يعرف أحد كيف ينقل الموظفون من أماكنهم ولماذا، ووفق أي معايير يوظفون. في سوريا لم يعرف أحد أعداد الموتى والمواليد والمنتحرين وحالات الاغتصاب، لا اعداد المجرمين ولا سنوات سجن المسجونين. لم يعرف أحد في سوريا أسباب مواقف بلادهم الخارجية وتبدلاتها، كان السوريون يصابون بالبكم حينما يسألهم لبناني ما، في سنوات الوصاية غير المجيدة: لماذا تحتلون بلادنا ؟؟!!، وطبعا كان السائل رب العمل دوما، والمسؤول عامله، وتكفي تلك التراتبية المختلة للعلاقة بين المحتل والمُحتل لتصيب المرء بالبكم. لم يكن السوريون يعرفون أحدا من وزراء بلادهم أو نوابهم أو مدراءهم، وعلى خطى ذلك، لم يكونوا يعرفون مما يتألف دستورهم وقوانينهم وحقوقهم وواجباتهم. فكل شيء كان يسير ويُسير في حياتهم بقدرة لب متمحور حول ذاته غير عليم، هو بالضبط ما يثورون عليه.

انكشاف سوريا على اهلها، سوريا بما هي جغرافيا ومواطنين وذاكرة وحاضر وحدث، سيكون معيارا مناسبا لمدى تحقيق الثورة لأهدافها. وانكشاف سوريا، بالمحددات ذاتها، على غير السوريين، سيكون معيارا لتحقيق سوريا لكيانيتها الطبيعية، كيانيتها التي تحولت لجهاز أمني فحسب. ففهم سوريا ليس حاجة ثقافية فحسب، بل هي بالنسبة للسوريين وجيرانهم مطلب سياسي عميق، فهذا الكيان الأكثر أثرا وفاعلية في كل محيطه، يكاد أن يكون أكثرهم غرابة وغموضا.

سيبقى النظام ومواليه أكثر من سيحتاج لفهم سوريا مستقبلا، ليعيدوا دمج ارواحهم في روحها الأعلى.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى