صفحات سوريةمحمد أبي سمرا

سوريا الجرحى والمشردين


    محمد أبي سمرا

يتكاثر جرحى الثورة السورية في مستشفيات جمعيات وجماعات اسلامية في طرابلس. من لم تحرره الثورة من الكتمان والصمت المزمنين، لا يزال الهلع يأخذه الى قيعان نفسه ويغرقه في الخرس وفقدان الذاكرة. لكن الغالبية منهم أخرجتهم الثورة من آبار الصمت والدونية الى الرواية. اما المستمع الى شهاداتهم عن القتل وتدمير البيوت وحرقها والتشرد، فيتساءل كم من القتلى والجثث والمشردين تحتاج سوريا لتتحرر من الغيبوبة الأسدية؟

ظهيرة نهار الجمعة الأخيرة من آذار الماضي، فرّ يوسف من حي الوعر في حمص، متوجهاً الى دمشق. نهار الأحد في الأول من نيسان، التقيناه في طرابلس. كان في حال من الإرهاق والذهول، مبنّج الجسم والحواسhttp://up2.med1fire.com/files/1/zotf29tw04l6sf/MyEgY.com.AMC.ACT.By.FOUADY.rar والمشاعر. روى وقائع من أيامه الاخيرة في حمص، لكن شخصاً آخر سواه كان يروي ويتكلم فيه وعنه.

كنا جالسين مع يوسف في حديقة مستشفى للعلاج الفيزيائي تابع لإحدى الجماعات الاسلامية في محلة أبي سمرا الطرابلسية، حيث ينزل حوالى 18 جريحاً. يوسف ليس جريحاً. لكنه فور وصوله من دمشق الى بيروت، غادرها الى طرابلس للإقامة مع صديقه الشاب السوري. قبل بدء التظاهرات في سوريا كان الصديقان يدرسان في جامعة بيروت العربية. بعد أيام من بدايتها غادر محمد الى مدينته بانياس، فعاد منها بعد ثلاثة أشهر فاراً من الاعتقال. يوسف غادر الى حمص في أواسط شهر رمضان من العام الماضي. إحدى التظاهرات الرمضانية التي شارك فيها، قال إنها انطلقت من سوق حمص الأثري، وسارت في اتجاه إحدى الساحات: 12 شخصاً من المتظاهرين أصيبوا برصاصات القنّاصين القاتلة في الرأس. كان سائراً الى جانبه صديق، التفت اليه، فرآه يهوي فجأةً مضرّج الوجه بالدماء، واختفى. “مستشفى البر” في منطقة الوعر كان الوحيد في حمص يستقبل الجرحى. الناشطون والمتظاهرون في المدينة عملوا على إبقاء هذه المنطقة خارج نطاق التظاهرات منذ بدايات الثورة، واكتفوا بجعلها منطقة آمنة لإمداد الأحياء الثائرة والمحاصرة بما تحتاجه للصمود والمقاومة وإسعاف الجرحى وإيوائهم، فلم يخلُ بيت فيها من جريح أو أكثر. فمنطقة الوعر يستحيل التظاهر فيها أصلاً. المؤسسات الحكومية ومقار الأجهزة الامنية تتركز وتكثر في نواحيها وشوارعها. وهي منعقد شبكة طرق المواصلات التي تربط حمص بالمناطق والمدن السورية. وحين تتالت انشقاقات “الجيش السوري الحر”، ولجأ عناصره الى بعض أحياء حمص، لم يدخل الى الوعر أيٌّ من الجنود المنشقّين. عمُّ يوسف المسنّ كان مسؤول التنسيقية الصحية في “مستشفى البر”، قبل أن يختفي. بعد أربعة ايام أو خمسة، رأى مشاهد اعتقاله وتعذيبه مصوّرةً بكاميرا هاتف محمول لإحدى الممرضات التي قالت إن رجالاً من المخابرات الجوية اقتادوه الى مقرّهم. حين سأل أهله عنه في المقر، قالوا لهم: “ارهابي، ارهابي، خلّصنا عليه. روحوا استلموه من المستشفى العسكري”. ممزقاً مسحولاً تسلمناه، قال يوسف، وكدنا ألاّ نعرفه، ثم أضاء شاشة هاتفه المحمول وقرّبها منا قائلاً: هذا هو، انظروا اليه. لقد صوّرته. هذا هو الارهابي الذي كان يوزع الخبز وعلب الدواء على النازحين والجرحى.

روى محدّثنا أن الوعر ظلّت المنطقة الوحيدة الآمنة في حمص حتى مساء الخميس الأخير من آذار الماضي. كان عدد سكانها قبل الثورة 60 ألف نسمة من أصل إجمالي عدد سكان حمص البالغ مليوناً و300 ألف نسمة. ساكنو الاحياء الاخرى في المدينة، أولئك الذين لم ينزحوا منها، تباعاً، الى دمشق والاردن وتركيا ولبنان، وصولاً الى مصر، لجأوا الى الوعر، فأوتهم بيوتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها، وارتفع عدد سكانها الى 800 ألف نسمة. في بيت أهله ترك يوسف ست عائلات قبل فراره الى دمشق. مساء الخميس ذاك، أذاع التلفزيون السوري الرسمي أن أهالي الوعر يطالبون بدخول الجيش الى منطقتهم لإنقاذهم من العناصر الإرهابية المسلحة. صبيحة الجمعة توغلت الدبابات في شوارع الوعر. تبعتها وحدات عسكرية وأمنية أخذت تمشط الحي والمباني وتقيم الحواجز في الطرق لتقطيع أوصال المنطقة وحصارها شارعاً شارعاً، فاعتقلت الكثير من الشبّان والرجال، حتى العديد من الجرحى في “مستشفى البر” وفي البيوت، اعتقلوا. سمع يوسف رجل أمن يصرخ في أحد الشوارع: “مشروع حلم حمص يتحقق. لقد صارت عاصمتنا، عاصمة الجبل. دولة الأسد الى الأبد، قبل خراب حمص وبعده”. في الظهيرة، وهو يمشي في شارع، هائماً وفي حال من الرعب، فوجئ بحاجز للجيش، فأوقفه، لا يدري لماذا لم يعتقله جنود الحاجز. أحد الجنود سأله الى أين هو ذاهب. لم يكن قد قرّر وجهةً لفراره. كان ضائعاً، فقال: الى دمشق. نظر الجندي في وجهه قائلاً: اذهب، لن تعود. كل خارج من حمص لن يعود اليها.

¶¶¶

الجرحى الذين تحدثنا اليهم في مستشفى العلاج الفيزيائي الطرابلسي، معظمهم من حمص وريفها. كلهم قالوا انهم سيعودون الى سوريا بعد شفائهم، وينتسبون الى “الجيش الحر”. أنا الذي حاولتُ سابقاً تسجيل شهادات عمال سوريين وسير حياتهم في سوريا ولبنان الذي يعملون فيه طوال سنين، فلم أستطع الحصول الاّ على بضع كلمات متقطعة خائفة من آبار صمتهم أو خرسهم المزمن – للمرة الاولى تطالعني سيولة الكلام على ألسنة سوريين لا يختلفون في شيء عن أولئك العمال الصامتين كأنهم فقدوا المقدرة على الكلام والعبارة. لقد أخرجهم العام السوري السابق، من دونيتهم الخائفة الخرساء في لبنان الذي فروا اليه جرحى برصاص الجيش الأسدي وقواته الأمنية في شوارع مدنهم وبلداتهم وقراهم.

في لبنان الذي، كبلدهم، احتله وحكمه ضباط المخابرات الأسدية، كانوا يعيشون في العراء مكتومين. لم تكن الصحف البيروتية تنقل أخبارهم إلاّ حين يهوي أحدهم عن سقالات ورش البناء العالية، أو حين يرتكب بعضهم جرائم سرقة وقتل تدفعهم إليها تلك الشهوات البائسة واليائسة الصادرة عن دونيتهم وانسحاقهم وضياعهم وشجاراتهم وغربتهم في البلد المفتوح والمستباح والغريب.

في هذا البلد الغريب والقريب، كانوا، كسائر العمال الأجانب المكتومين، يحصّلون قوت يومهم، وما يقوم بأود أولادهم وأهلهم في بلدهم المصادر المفقر منذ عقود على مذبح أكاذيب “المقاومة” والممانعة التي لم تجلب سوى الحروب والعداوات الأهلية القاتلة والاغتيالات والفقر. وباسم هذه الأكاذيب، كان رجال مخابرات الاحتلال الأسدي وزبانيته من اللبنانيين، يخرجونهم من مآوي بؤسهم وصمتهم في أطراف بيروت وضواحيها، ويسيّرونهم في تظاهرات “الممانعة” تأييداً لإحتلال لبنان “إلى الأبد”.

اليوم، ها بعضهم هاربٌ الى طرابلس، جريحاً برصاص الاحتلال نفسه، لأنه هتف للحرية والكرامة في بلده. الهتاف والتظاهرات والرصاص والجروح، حرّرت ألسنتهم، وأخرجتهم من آبار الصمت والدونية والكتمان التي يقولون إنهم لن يعودوا إليها، بعد شفائهم. ما من أحدٍ منهم لم يتحدث عن فقدان قريب أو أخٍ أو صديق أو أب. أحدهم سأل: هل تعلمون لماذا يدمّرون المنازل؟ ثم جاوب: لكي تتمكن الدبابات من التوغل في الطرق والشوارع الضيقة للوصول إلى الأحياء الداخلية، دهم الناشطين واعتقالهم أو قتلهم. أما الجنود الفارون أو المنشقّون عن الجيش النظامي، فيحرقون بيوتهم وبيوت أهلهم وأقاربهم الذين يتشردون في العراء هاربين الى حدود البلدان المجاورة.

روى جريح آخر قصة امرأة من درعا اختفى زوجها قبل أربعة أشهر. بعد انتقالها من بيت الى بيت لحماية أطفالها من القصف والهجمات، أخذت تتلقى اتصالات هاتفية، من بينها من هاتف زوجها المحمول، تهددها بالقتل والاغتصاب. بعد تدمير منزلها قرّرت الرحيل عبر طرق التهريب الحدودية للوصول الى الاردن. مسبقاً حذّرها المهربون من أن يصدر عنها وعن أطفالها أي صوت أثناء رحلة الهرب الليلية، خشية أن يطلق الجنود النظاميون الرصاص عليهم من التلال المجاورة. في عتمة الطريق جزعت من أن تصرخ، حينما اكتشفت فجأةً أن اثنين من أطفالها الأربعة ليسا بالقرب منها، وقد اختفيا.

عادت للبحث عنهما، فوجدتهما مذعورين صامتين، وملابسهما عالقة بأسلاك شائكة على الحدود السورية – الأردنية.

الجريح المصاب بشظية كسرت عظم فخذه، قال إنه نُقل قبل شهر الى طرابلس. لم تُجرَ له عملية جراحية بعد. كان قد مكث أياماً في أحد مستشفيات حمص الميدانية بعد إصابته. حين رفع الغطاء وكشف عن رجله، قال إنها قَصُرَتْ خمس سنتيمترات بعد وصوله الى طرابلس. فور دخولنا الى غرفته، فجأة طوى الشاب المستلقي على السرير الآخر، جسمه النحيل وأخفاه مع رأسه تحت الغطاء، بعدما نظر إلينا محملقاً. عيناه الواسعتان فارغتان إلا من رعب أخرس. بعد قليل أخرج وجهه لثوان من تحت الغطاء، ثم أطلق، مع حملقته نفسها، صوتاً مستغيثاً، قبل أن يخفي رأسه مجدداً. عقب خروجنا من الغرفة، قال دليلنا، منسّق الشؤون الصحية، إن الشاب جُرِحَ برصاصة في بطنه، وقد شُفي تقريباً. لكنه منذ وصوله الى طرابلس قبل 20 يوماً، وهو على هذه الحال من الخرس والرعب. كلما اقترب منه أحد أو حاول التحدث معه، يفتح عينيه على آخرهما محملقاً، ثم ينطوي ويكمر رأسه بالغطاء، محاولاً أن يختفي. قد ينطق كلمات غير مفهومة، قبل اختفائه أو غيابه. أحياناً يستفيق في الليل مذعوراً ويطلق صرخة طويلة.

ذلك الشاب الغارق في الصمت والرعب، لا أحد يعلم حقاً ماذا يخفي خلف الهلع في نظرته المحملقة، والى أي عمق يحاول أن يغور ويختفي في قيعان نفسه ليتخلّص من شقاقها ويجمع شظاياها، علّه يعثر على لحظة سكون في تلك القيعان الغامضة.

آخر جريح التقينا به قال مبتسماً، كأنه يتندّر على نفسه، إنه لا يعلم متى وصل الى طرابلس، وإنه أمضى 15 يوماً في غيبوبة كاملة. منذ نزوح أهله من القصير الى النبك، لا يعلم عنهم شيئاً. ذكرياته عن الأيام القليلة السابقة على إصابته، امّحت تماماً. كم من الوقت والقتلى والتدمير والمشردين والجثث تحتاج سوريا – فكرتُ وأنا أخرج من المستشفى – لتتحرر من الغيبوبة الأسدية؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى