صفحات العالم

سوريا الحالية مثل لبنان والعراق… وأسوأ


    جهاد الزين

كتب ميشال كيلو تحت عنوان “صراع لا يشبه غيره: سوريا ليست لبنان أو العراق“. الأفكار التي وردت تستحق ليس فقط المناقشة بل الرد أيضا. (اليوم حلقة أولى والخميس المقبل حلقة ثانية).

طويلاً دخلنا بعد العام 1991 الذي شهد هزيمة نظام صدام حسين في الكويت وانفتاح البحث – الذي استغرق اثني عشر عاما – حول مصير ذلك النظام… دخلنا في سجالات تبدأ ولا تنتهي حول طبيعة التكوين المعاصر للمجتمع العراقي وخصوصا المسألتين الطائفية والقومية فيه.

طويلا دخلنا في نقاشاتٍ وسمعنا آراء حول المسألة الطائفية من العديد من “العلمانيين” العراقيين، أكانوا يساريين فرّوا إلى المنافي القريبة والبعيدة أو ليبراليين استقروا هم أو آباؤهم في لندن وواشنطن عندما كان “النظام التقدمي” في بغداد بعد 1958 يهجِّر من “اليمينيّين” ثم البعثيين قبل أن يتفرغ “البعث” بعد 1968 للتنكيل بكل أنواع اليساريين والإسلاميين… والبعثيين، بل بكل فئات الشعب العراقي سنّة وشيعة وأكرادا ومسيحيين وغيرهم. كان المسيحيون وقتها في انحدارٍ ديموغرافي (وطبقي) متواصل منذ الثلاثينات.

طويلا سمعنا من الأصدقاء العراقيين أن العراق مختلفٌ عن لبنان الطائفي جدا وأنه لا يمكن أن يتحول إلى لبنان فينفجر طائفيا.  لماذا أيها الأعزاء العراقيون… كنا نسأل: كان الجواب المتكرر هو أن “الشخصية الوطنية العراقية ناضجةٌ ووشائجَ التماسكِ أقوى بين السنّة والشيعة العرب في العراق بسبب العديد من العوامل السياسية والاجتماعية”.

وكم كان أصدقاؤنا العلمانيون العراقيون يقولون لنا: العنصر القبَلي في المجتمع العراقي قويٌّ جدا والكثير من القبائل الكبرى تضم كل واحدة منها سنّةً وشيعةً رباطهم متينٌ وهم موجودون قبلياً في مجالس وأنماط ووشائج حياتية مشتركة وبالتالي فإن الوضع سيكون مختلفا عن لبنان الذي “كل شيء فيه طائفي نظاما وعلاقات”.

“كُلِّش زين”… ماذا حصل في العراق؟

لم تحصل فقط الحرب المذهبية الضروس بين السنّة والشيعة – أيا تكن أصابع التدخل المحيط والأميركي – بل تحوّلت أيضا هذه الحرب المذهبية إلى حقيقة منتشرة في كل مفاصل الحياة العامة العربية بسبب أهمية الكتلة الشيعية العراقية التي هي الكتلة الكبرى ديموغرافيا ومذهبيا بين الكتل الشيعية الإمامية العربية في اليمن ولبنان والبحرين والسعودية والكويت وسوريا، وبسبب أن تغيير النظام السياسي في بغداد وتولّي أحزاب دينية شيعية السلطة للمرة الأولى في النظام الإقليمي العربي وبالتحالف مع النظام الديني الإيراني، كل ذلك جعل المملكة العربية السعودية تدخل في سياسات جديدة نوعية من حيث تكريسها أولوية مواجهة المد السياسي الشيعي غير المسبوق في العصور الحديثة في “الداخل العربي”. كانت أهمية العراق الاستراتيجية هي التي كرّست الحساسية السنية الشيعية في الجيوبوليتيك العربي وكان لبنان – على مستوى تفاقم هذه الحساسية – ثانويا في العمق قياسا بالعراق في الحسابات السعودية بعدما حقّقت الاستراتيجية الإيرانية نجاحا تاريخيا في السيطرة السياسية على الجماعات الشيعية العربية رغم التنوع الاجتماعي والثقافي والسياسي داخل نخب – لا جماهير – هذه الجماعات. وهي نخبٌ – على كونها محاصرة سياسياً وأيديولوجياً – ترفض تعريفَها أصلا بالتعريف الطائفي وهي منحازةٌ ضد النموذجين الإيراني والسعودي للحكم معا. لكنها ضعيفة سياسيا.

إذن ظهر العراق أعنفَ طائفيا من لبنان الطائفي. و”تلبنن” في نظامه السياسي بل تخطّى لبنان من حيث أن فيديراليتَه معلنة في الدستور بعكس “الفيديرالية” الطائفية اللبنانية غير المكتوبة ولكن القائمة. صحيح أن العنصر الكردي هو عنصر “حراسة” للتفكك العراقي الحالي ولكنّ إيجابيته على هذا الصعيد أنه ينتمي إلى منظومة الحساسيات القومية لا الطائفية.

الآن دخلنا في النقاشات السورية. والنزعة السجالية الجديدة هي تأكيد بعض العلمانيين السوريين أن سوريا تختلف عن لبنان والعراق من حيث أن مستوى توحُّدها السياسي والاجتماعي أقوى مما هو في لبنان والعراق المفتّتين.

“شْلونْ” أيها الأصدقاء العلمانيّون السوريون الذين علينا بسببهم أن نضيف، بقوة، باريس إلى عواصم شتاتهم الكبيرة؟

نحن متشابهون جدا. فلماذا انتصر التفكّك في البلدان الثلاثة؟

الجزء الثاني

2 – لماذا انتصر التفكّك في بلداننا الثلاثة؟

آخر مرافعة شاملة عن اختلاف مآل المجتمع السوري عن المجتمعين العراقي واللبناني جاءت من ميشال كيلو تحت عنوان: “صراع لا يشبه غيره: سوريا ليست لبنان أو العراق” في مقاله  في “السفير” صباح السبت المنصرم. هنا الحلقة الثانية من المناقشة – الرد على هذا المقال بعد الحلقة الأولى المنشورة الثلثاء الماضي.

كلا يا عزيزي ميشال سوريا ذاهبة لأن تكون مثل لبنان والعراق أو قد تكون أصبحت أسوأ في المسألة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنّة والعلويين، وهي على الأرجح “أسوأ” في المسألة الكردية. ففي العراق انضمّ الأكراد إلى الحركة التغييرية بل قادوها تاريخيا رغم مشروعهم الانفصالي، أما في سوريا فإن انفصاليّتهم متجهة ضد “الثورة” وتتقاتل مع فصائلها المحلية والوافدة عبر الحدود التركية. أنا أتكلّم هنا عن التفتّت الاجتماعي دون الإشارة إلى أن مستوى العنف التدميري السوري فاق الحربين الأهليّتين في لبنان والعراق. ففي سوريا خلال أقل من عام وثمانية أشهر شمل التدمير سبع مدنٍ رئيسية بل الرئيسية، وبعضها دُمِّر بمعظمه كحمص، وبجزء كبير وثمين منه كحلب ناهيك عن الضواحي والأرياف، وهذا منسوب عنفي رغم مركزية دور النظام الاستبدادي المنهجي فيه لا يمكن إغفال عنف المعارضة المسلّحة ولاسيما اعتبارا من معركة حلب وربما من معركة حمص. فلم يظهر أن المعارضة أبدت قدرا أعلى  في منع تدمير سوريا أو في الحد من تدميرها… والآتي أعظم مع الأسف الشديد.

يبني ميشال كيلو مقالته على فكرة رئيسية تتكرر هي أن المجتمع السوري كان يمضي في سيرورة اندماجية منذ قيام دولته الوطنية بعد نهاية الأمبراطورية العثمانية مفترضا أن السيرورتين العراقية واللبنانية الاندماجيّتين كانت مساحتهما أقل من مساحة السيرورة السورية.

يفوت ميشال كيلو أن هذه البلدان الثلاثة، العراق وسوريا حتى العام 1958 ولبنان حتى العام 1975، كانت تجربتها الاجتماعية الثقافية الاقتصادية السياسية تشهد كلٌ منها تعايش ديناميّتين اندماجية وتفكّكية معا. حتى لبنان حيث المظاهر الطائفية السياسية معلنة وظاهرة كانت التجربة الرائدة لشرائح واسعة من طبقته الوسطى والعليا عبر بيروت تحديدا تكتب تاريخا حداثيا اندماجيا حقيقيا. لكن تطور الأحداث أدى في النتيجة إلى غلبة الدينامية التفكيكية على الدينامية الاندماجية فيه. أين تختلف سوريا على هذا الصعيد – أقول على هذا الصعيد – عن لبنان والعراق؟ لا تختلف جوهريا. ففي سوريا أيضا كانت الدولة المركزية فيه تقود تجربة تفاعل فوق طائفي حداثي مسرحها الأساسي دمشق. كذلك في العراق مسرحها بغداد. دعنا لا ننسى أن الحديث هنا يدور حصرا حول ثلاث عواصم احتضنت بالضرورة “وحدها” التجربة الاندماجية للدولة الوطنية هي بغداد ودمشق وبيروت رغم اختلاف مناخاتها السياسية والاجتماعية. صحيح أن البلدان الثلاثة ورثت مدنا عريقة في تنوّعها كالبصرة والموصل وحلب وحمص وطرابلس وصيدا، غير أن “تاريخ الدينامية الاندماجية” كان في ظل الدولة الوطنية في العواصم الثلات “فقط”. كانت كلٌ من هذه التجارب تحمل في طياتها دينامية تفكّكية… هي التي انتصرت في النهاية في بيروت وبغداد… فكيف يمكن أن تُفلت دمشق منها؟! بعد أن تحوّلت ثورةٌ حقيقية ضد نظام استبدادي إلى حربٍ أهليةٍ ضارية.

يا عزيزي ميشال: لبنان – سويسرا الشرق –  انهار بكامله عندما انهارت بيروت عام 1975. إياك أن تصدّق أن التعايش اللبناني كان موجودا خارج بيروت مع بعض الاستثناءات … المدينية طبعا. وبغداد التي وصفها الجواهري في مذكراته عندما انتقل اليها من النجف عام 1920 كأنك تصف نيويورك اليوم، انهار العراق عندما “انهارت” هي كمدينة جامعة في سيرورة طويلة بدأت عام 1958 وهي اليوم بعدما أكملت عليها تجربة صدام حسين المتوحّشة “محروسة” بجدارات تقسيم طائفية وأيديولوجية أصولية تمنع “مدينيّتها” العريقة.

دمشق طوّرت الريفيين الذين قصدوها في الجيش والإدارة والجامعات منذ العشرينات من القرن العشرين ولكن تطور التجربة بعد 1958 جعل فضاءات دمشق السياسية مختنقة إلى أن أصبحت تواجه اليوم مع تبلور حاد طائفي وتضخّم ديموغرافي احتمال انهيار العصب الرئيسي للبيئة الاندماجية السورية. الفارق الكرونولوجي أنه في لبنان انهار التعايش في بيروت فلحقتها الأرياف التي كانت معظمها حتى في الزمن الذهبي اللبناني تعيش في “غيتوات” شبه مغلقة. في سوريا يبدو أن الأرياف انهارت قبل العاصمة.

دعنا لا نبتعد كثيرا:

تعايش وتصارع الديناميكيّتين التفكّكية و الاندماجية موجودٌ في الثورة السورية نفسها: فبين المجموعات الشبابية التي “أطلقت” الثورة وأيّدها مثقفون علمانيون في الداخل والخارج وبين القوى الأصولية والسلفية التي انخرطت فيها وقادت عسكرتَها مسافة راهنة ومستقبلية بين الاندماج والتفكك. وأنت تعرف جيّدا تعايش وتصارع الديناميكيّتين “على الأرض”… وفي الواقع غلبة الأولى التفككية على الثانية التوحيدية.

إذن في كل من بلداننا الثلاثة كان يمكن في ظروف داخلية وخارجية أخرى أن يتعزز المسار التوحيدي الاندماجي على المسار التفككي. الذي حصل هو العكس وعلينا أن نتابع درس أسباب ذلك في بلداننا التي هي كيانات متصلة جغرافيا واجتماعيا وطائفيا. فلماذا تكون سوريا مختلفة وهي التي كانت طوائفها في العهد العثماني، خلافا لما تقول أنت، مثل كل الطوائف الأخرى في لبنان ذات كيانات “مستقلة” في ظل نظام الملل العثماني. وأريد أن أذكّرك أن قوانين الانتخابات السورية في العهود الاستقلالية لما قبل 1958 كانت تقوم على أساس التوزيع الطائفي في مناطق الاختلاط.

ثبت أنها دول ومجتمعات متشابهة أو عادت عناصر تشابهها عديدة… تجمعها حتى إشعار آخر، وهي تكافح من أجل الديموقراطية، حربٌ أهليّةٌ واحدة!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى