رياض خليلصفحات الرأي

سوريا : السلطة اللاسياسية


رياض خليل

الأسد: من السياسي إلى الأهلي:(القبلي – الطائفي- الإثني- الديني)

الجزء الأول

ملاحظة: كون المجتمع الأهلي مرحلة أسبق وأدنى في سلم التطور الاجتماعي، لايعني الانتقاص من شأن وجوده وشرعيته الاجتماعية التاريخية ، وصلاحيته كقاعدة لبناء المجتمع المدني والسياسي عليها ، وقدرته على الانتقال من لعب دور التابع للديكتاتور ، إلى لعب الدور الندي المشارك والمكافئ في تقرير مصير الوطن والمجتمع والشأن العام ، والمساهمة بعملية التطوير والتنمية وبناء الوحدة واللحمة الوطنية الاجتماعية على قاعدة الديمقراطية ، والاختيار الحر الواعي ، والتحول إلى المجتمع المدني والسياسي .

مقدمة :

تخلص حافظ الأسد من خصومه ، وأوهم السوريين أنه قدم لهم ما امتنع خصومه عن تقديمه لهم، أما في الواقع ، فقد كان أكثر بخلا وطمعا واحتيالا ، حينما قايض المجتمع المدني والسياسي بالمجتمع الأهلي/العصبي، واعتبرت الخطوة انفتاحا على الشعب ، بينما هي ابتعاد عنه وعن السياسة، كما تبين فيما بعد، لقد أهلن حافظ الأسد السياسة ، بدلا من تسييس المجتمع الأهلي بعصبياته العشائرية ، القبلية ،الطائفية، والعرقية وماشاكلها من بنى المجتمع الأهلي ، ليتمكن من إنجاح مشروعه الميكافيللي السلطوي السوري ، ومن بعده مشروعه الإمبراطوري الإقليمي : بلاد الشام 🙁 سوريا ، لبنان ، الأردن ، فلسطين ) ولا بأس من ضم العراق وإحياء مشروع الهلال الخصيب لو أمكن ، ولكن أحلام اليقظة الأسدية لم تثمر ولم تسفر عن شيء ، وباءت أوهام الفوهرر السوري بالفشل .

تعريفات:

الحسب :

يعني صلة الرحم عن طريق الأم وأصولها وفروعهم، وقد شكل الحسب قاعدة التعريف للفرد وانتمائه في المراحل المبكرة من التاريخ، حيث كانت الجماعات البشرية تعيش نظاما أشبه ما يكون بنظام القطيع (1) ويسميه ماركس : المشاعية البدائية، وآخرون يصنفونه على أنه ( المرحلة النسائية أو مرحلة الأمومة ) حيث كانت السيطرة للأم، وما لبثت هذه المرحلة أن تحولت وانقلبت تدريجيا مع ظهور وبروز الملكية الخاصة، وتطور أسلوب الإنتاج وأدواته، والارتقاء من حياة البداوة والرعي والالتقاط والصيد، إلى مرحلة أعلى وأرقى وأوسع، هي المرحلة الحضرية والاستقرار الزراعي ونشوء الحرفة، وظهور المدن والبلدات، ومع سيطرة المرحلة الجديدة وغلبتها ولدت وترسخت المرحلة العصبية.

النسب والمجتمع الأهلي :

ويعني صلة العصب عن طريق الأب وأصوله وفروعهم، وقد شكل النسب قاعدة التعريف للفرد وانتمائه في النظام الأبوي ” الرجالي ” الذي استمر حتى يومنا هذا. وعلى أساسه تشكلت الصيغ التنظيمية العصبية المعروفة كالعشيرة والقبيلة والفخذ، وهي لا تزال موجودة في مناطق وبلدان عديدة، وتلقي بثقلها في الحياة المدنية الحديثة والمعاصرة، وتندرج تحت مسمى المجتمع الأهلي، الذي يشمل الطائفة والمذهب والعرق والدين..

المجتمع المدني :

وتتمثل فيه الصلات والعلاقات المشتركة غير الرسمية أو الحكومية لمكونات المجتمع، وتتخطى مفهوم الأهلي وحواجزه، شكلا ومضمونا. وتعرفه موسوعة ويكيبيديا : “المجتمع المدني أو المؤسسات المدنية تشير إلى المساحة من العمل الجماعي التطوعي لتحقيق مصالح وأغراض وقيم مشتركة، وغير مرتبطة بالدولة أو العائلة والسوق، ومن ذلك مثلا ( منظمات ثقافية، نوادي اجتماعية ورياضية، جمعيات مهنية، أكاديميات علمية وبحثية، التعاونيات، منظمات الحفاظ على البيئة، والدفاع عن حقوق الإنسان، الاتحادات التجارية، الإعلام، المؤسسات الخيرية والدينية، الجاليات، النقابات) وما إلى ذلك من أنشطة تعنى بالشأن العام، وتلعب دورا لا تستطيع السلطة السياسية أن تلعبه، ولا يجوز لها أن تلعبه أو تحد منه، لأن من شأن تدخلها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة للمجتمع.

المجتمع السياسي :

ويتكون من تنظيمات ومجاميع يربط بين أفرادها أغراض سياسية مشتركة، وتعتمد في تماسكها على الفكرة والعمل والهدف السياسي، وهذه التنظيمات عبارة عن حركات وتيارات وأحزاب وتجمعات فاعلة في الحقل السياسي، إما بصفتها سلطة حاكمة، أو بصفتها معارضة سياسية. ويتميز المجتمع السياسي بامتلاكه السلطة أو السعي لامتلاكها بهدف فرض رؤيته ومنهجه في إدارة الحياة الاجتماعية بالطرق والوسائل السياسية المعمول بها في بلد أو مجتمع ديمقراطي شرعي.

المجتمع العسكري/ الأمني(البوليسي): وهو المنظمة المسلحة التي تستولي على السلطة وتحتكرها وتستخدمها للاستيلاء على الوطن أو البلد وثرواته وخيراته الطبيعية والبشرية، وتعسكر المجتمع بكامله، وتلغي بالتالي المجتمعين :

المدني، والسياسي، لأنهما الأخطر على وجودها وبقائها في الحكم، بلا أي قاعدة شرعية وقانونية، وبالمقابل يسعى المجتمع العسكري للاستيلاء على أدوار المكونات الاجتماعية برمتها، وبما أنه من الصعب تحقيق هدفها كليا، فهو يعمد إلى تدجين ما يمكن تدجينه من المكونات، أو إبقائه تحت السيطرة، ومن ذلك مكونات المجتمع الأهلي، التي يصعب ترويضها، وبنفس الآن لاتشكل خطرا مباشرا وكبيرا على المجتمع العسكري المسيطر، الذي يغض الطرف نسبيا عن الأنشطة الأهلية التي لا تعنى بالشأن السياسي مباشرة. وقد يشركها ويشتريها بمكاسب سلطوية محدودة لزعاماتها التقليدية .

الجزء الثاني

سوريا نموذجا:

بعد استيلائه على السلطة، كرس حزب البعث ماكان الديكتاتور جمال عبد الناصر قد اتخذه من إجراءات استئصال حقوق الإنسان بوصفها أسسا للبنى الديمقراطية، والجذور التي تغذي أشجار الحرية، وذهب زعماء البعث إلى أبعد الحدود في ذلك الاتجاه، وإلى المستوى الذي بات يهدد وجود وروح المجتمع بمكوناته وعناصره كافة، وساعد على استفحال هذا المرض البعثي وجود مناخ دولي ملائم، هو مناخ النظام السابق ثنائي القطب، بالإضافة إلى المناخ الاستبدادي الشامل والمسيطر في البلدان العربية جميعها، والذي استند مشروعه السياسي الرسمي : الداخلي والخارجي، على قاعدة العنصرية فكرا ومنهجا وممارسة، وهي التجلي المباشر للاستبداد بصوره السائدة ، والتي تعبر بمجملها عن أزمة ذهان سياسي ثقافي مستعصية ومتفاقمة، أزمة دخلت مرحلة رد الفعل الهيجاني العنيف بسبب زوال شروط نشوئها وبقائها المحلية والعالمية وإحساسها بقرب أجلها .

من المجتمع إلى الفرد الديكتاتور :

ألغى الديكتاتور المجتمع ، وألحقه بذاته كجزء من ممتلكاته من الموارد البشرية ، وصار هو المجتمع : وليه وراعيه ، واتخذت الحالة خصوصيتها كما في أي بلد، فالبعث ابتكر لنفسة أشكالا وأسماء ووجوها عدة، واعتبرها تعددية حزبية وسياسية، وأطلق عليها اسم الجبهة الوطنية، وهي ليست سوى الجبهة البعثية الواحدة كمحتوى، والمتعددة كشكل، وتطورت الحالة من حكم الحزب والمجموعة إلى حكم الفرد الواحد الأحد، الذي استحوذ على صلاحيات وسلطات المؤسسات السياسية والدستورية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصار الديكتاتور هو المؤسسة والتشريع والإدارة والقضاء والجيش والأمن والفكر والثقافة ، وسرق أدوار الفرد والمجتمع ، ونصب نفسه حاكما مطلقا لا حدود لسلطانه ، يقرر مصير الوطن والشعب كما يحلو له أن يقرر ، ويتدخل بأدق وأتفه التفاصيل والجزئيات، ويدير شؤون البلاد والعباد كما يدير صاحب مزرعة مزرعته. ومثل هذا النموذج للحكم المطلق لا مثيل له في التاريخ : قديمه وحديثه ، ولا يصلح للحياة الطبيعية ، ولا يعمر طويلا لأنه ينشأ عن حالة استثنائية شاذة ، عرضية ومؤقتة وعابرة ، إنه أشبه بحالة سرطانية طارئة ومحكوم عليها بالزوال ، وتحمل عوامل موتها في ذاتها وطبيعتها وحياتها المشوهة .

تحويل الحزب إلى منظمة للمرتزقة :

في سوريا استطاع الديكتاتور الفرد أن يحتكر سلطة القرار في كل ما يتعلق بالشأن العام ، ولعب لعبته الميكافيللية بمهارة وبراعة فائقة في وسط ومناخ موات ، ونجح إلى حد كبير في إلغاء دور حزب البعث بالذات ، ليحوله إلى جيش حزبي مرتزق و مطيع تنحصر وظيفته في تلقي الأوامر والتعليمات والتوجيهات وتنفيذها ، وقد جرد الحزب من الحقوق السياسية المتعارف عليها ، وأصبح عاجزا عن الاختيار والقرار والاجتهاد، ومهمته الحمد والتسبيح والهتاف والتصفيق للديكتاتور المقدس صاحب العصمة المصطفى ، الساحر السادي ، الذي حول البلاد إلى مسرح عرائس .

الصفقة المشبوهة :

عرف حافظ الأسد كيف يغلق الباب في وجه المجتمع المدني والسياسي ، ويفتحه لقوى المجتمع الأهلي ، ولكن على طريقته الميكافيللية المدروسة والمرسومة بعناية ودقة ، وتمكن من كسب وشراء الشخصيات التي لايمكن شطبها من المعادلة الاجتماعية تحت أي ذريعة ، باعتبارها تمثل قوة أهلية من نوع ما ، لايمكن اختراقها أو تفكيكها والتعرض لحصانتها التقليدية: العصبية والدينية ، ولم يقع حافظ الأسد في هكذا مطب خطير، يهدد وجوده وشرعيته وقوته، وأحسن المغامرة والمقامرة، فكسب وربح قوى أهلية : عصبية ودينية وطائفية ، من خلال التحاصص المحسوب بدقة مع رموزها وزعاماتها التقليدية ، وبالمقابل قامت هذه الرموز والزعامات الأهلية من مختلف العشائر والعصبيات والطوائف بمبايعته ؟ وإسباغ الشرعية على حكمه البلاد والشعب ، وكان في مقدمة الذين شرعنوا اغتصابه للسلطة وانفراده في الحكم بعض من الزعامات السنية الدينية المعروفة ، ومن أبرزهم الشيخ أحمد كفتارو ، والشيخ مروان شيخو ، والشيخ محمد سعيد البوطي ، وغيرهم من الرموز الدينية الإسلامية السنية ، التي كان لمبايعتها وموافقتها الأثر الحاسم والأكثر ضرورة وأهمية لشرعنة حاكمية حافظ الأسد دينيا وقانونيا وشعبيا، ولم يكن حافظ الأسد بقادر على الاستغناء عن الإفتاء الإسلامي السني بجواز توليه المنصب الرئاسي، وبعد ذلك بحصر السلطات بيده وحده، ودمجها في شخصه دون سواه، وتمت تلك الصفقة المشبوهة وغير العادلة تحت العباءة الإسلامية السنية، ممثلة بالأسماء المذكورة آنفا، وفي الحقيقة فقد تضمنت الصفقة الكثير من الغبن لشركاء حافظ الأسد من أهل السنة خصوصا، ولأهل السنة جميعهم عموما. وهم يدفعون ثمنه الآن أكثر من أي وقت مضى، ويدركون أنهم وقعوا في مصيدة عويصة، لم يتمكنوا من الفكاك منها طوال حكم حافظ الأسد، ومن بعده وريثه وابنه بشار الأسد.

السلطة اللاسياسية :

لم ينجح ويترسخ حكم حافظ الأسد سوى بانفتاحه واعتماده على المجتمع الأهلي/العصبي، وهو ديدن الحكام في بلدان منطقة الشرق الأوسط عموما، وهو أيضا نهجهم وسبيلهم الوحيد للبقاء والاستمرار وتحصين الاستبداد والديكتاتورية من خطر التغيير والهزيمة والخروج من منصة السلطة اللاسياسية واللامدنية.

استعار حافظ الأسد المصطلحات الدينية الإسلامية القديمة والمقدسة لإسباغ الشرعية على حكمه، فبدلا من لفظة” انتخاب” حلت لفظة” مبايعة، وهي لا تطلق عادة إلا على الخليفة المختار، واستخدم كلمة استفتاء، وهي لفظة ذات إيحاء ديني أكثر منه مدني، ولم يوفر حكم الأسد فرض ألفاظ وأوصاف أخرى لم تنتشر إلا في النظم الشمولية : القومية والاشتراكية والدينية: ومن الأمثلة عليها: ( القائد ، الرمز، الأب ، المناضل ، الملهم ، الحكيم ، المعلم ، إلى غير ذلك من الأسماء والألقاب المعبرة عن ديكتاتور يته المطلقة ، والتي تسبغ على شخصيته هالة من الهيبة والجاذبية النفسة/الروحية/الدينية ، وخاصة في أعين ونفوس الأوساط المتدينة .

إن المجتمع المدني والسياسي كليهما يعارضان الواقع الديكتاتوري غير الشرعي وغير السياسي ، وكان لابد من إبعاد وإسكات وقمع ومحاصرة وملاحقة وتصفية القوى المدنية والسياسية الرافضة بأساليب مختلفة ، وبأشكال ومستويات متفاوتة تعتمد على كيفية وكمية القوة المعارضة . وكان النتيجة المتوقعة : تراجع المعارضة من العمل فوق السطح إلى العمل تحت السطح السياسي ، ما أدى إلى ضعفها وضمورها وكمونها ونفيها خارج الأضواء والمسرح السياسي ، الذي تحول إلى شركة مساهمة محدودة للقوى القومية والشيوعية والدينية والأهلية العصبية ، والقاسم المشترك بينها هو انحيازها للاستبداد والديكتاتورية، ومعاداتها العصابية للحرية والديمقراطية المتعاظمة الانتشار عالميا، والقوة الوحيدة المرشحة لاكتساح وهزيمة الاستبداد والديكتاتورية، وتطهير الكوكب الأرضي من فظاعاتها وأضرارها التي لا تقف عند حدودها، والتي تملك خاصية الانتشار الوبائي، ما يفرض على المجتمع الدولي ( وخصوصا العالم الديمقراطي الحر منه ) التوحد والعمل كفريق لمواجهته والقضاء عليه بالطرق الوقائية والعلاجية والإسعافية، طبقا لكل حالة خاصة. إنها المهمة الراهنة أن يتحمل المجتمع الدولي متضامنا مسؤولية مكافحة الاستبداد والديكتاتورية في معاقلها وعقر دارها، بوصفها البيئة التي تخرج الإرهاب وترعاه وتحتضنه وتصدره خارج الحدود، وبوصفها آلية لإنتاج التخلف، وهدم وتخريب الحياة الاجتماعية المدنية الحرة، ومن الضروري للعالم الحر الديمقراطي أن لا يتخذ وضعية الدفاع، بل الهجوم، لأنه أفضل وسيلة للدفاع الشرعي عن الذات المدنية الإنسانية الحرة المتحضرة.

الجزء الثالث

عباءة الشرعية الثورية المزعومة :

تسلل حافظ الأسد إلى السلطة من بوابة السياسة ، ولكنه وصل إلى الرئاسة من بوابة المجتمع الأهلي بألوانه وأطيافه الرئيسية، واتخذ منهجه في الحكم من نظريات ابن خلدون وميكافيللي ، اللذان أسسا نظرية فن الحكم في النظم التقليدية ما قبل ظهور الرأسمالية والأشكال السياسية الجديدة التي ابتكرتها ،

اعتمد حافظ الأسد لشرعنة زعامته ودكتاتوريته على ركائز ثلاث ، كان لها تأثيرا كبيرا على الشارع الاجتماعي السياسي والأهلي ، وتتمحور هذه الركائز على : – الفكر القومي الشوفيني -الفكر الاشتراكي الشمولي – الفكر التراثي التقليدي العصبي العشائري والقبلي والطائفي والديني ، وكان التوليف بين الركائز المذكورة سهلا وميسرا ، وتشكل مجتمعة عباءة الشرعية الثورية الانقلابية للسلطة الديكتاتورية الأسدية ، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية ، وسمحت هذه الشروط والظروف المواتية بمصادرة أي فسحة مدنية- سياسية- ليبرالية ، واعتبارها من المحظورات والمحرمات ، المرتبطة بالعدو أو بعبارة أدق : بالجبهة المعادية ، المتمثلة بالرأسمالية والإمبريالية ، أي ما يدعى بالعالم الحر ( الجبهة الديمقراطية الدولية) والتي يتكون قوامها الرئيسي من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكندا ، وغيرها من البلدان الديمقراطية الحرة ، التي وقفت مجتمعة في مواجهة المعسكر اللاديمقراطي : القومي والاشتراكي ، وفي هذا الإطار استغل حافظ الأسد وجود إسرائيل كجزء من العالم اللااشتراكي ( الغربي) ، فخلط الأوراق ، ولعب بالعواطف ، وأقنع الكثيرين بأن السبب الرئيسي لوقوف العالم الحر ضده وضد حكمه وسياسته ، هو موقفه ” الوطني – القومي- التراثي” المعادي لليهود وإسرائيل ، وأن الغرب يقف مع اليهود ضد العرب والمسلمين ، وأن القضية هي هكذا وحسب ، وصدق الكثيرون هذا التلاعب بالألفاظ لتغيير الحقيقة ، وطمس الواقع والصورة ، في نظر المواطن ، ولكن الأمر يختلف ، فالجبهة الحرة هي ضد المعسكر الاشتراكي وتوابعه من البلدان المتخلفة ، سواء وجدت إسرائيل أم لم تكن موجودة ، ولكن ما خدع الكثيرين هو بروز الصراع العنصري الثقافي والإعلامي والعسكري مع إسرائيل إلى مقدمة المسرح السياسي الدولي ، وطغيان تلك الصورة الجزئية المسلط عليها الضوء بقوة ، على الصورة الكلية للوضع 🙁 الصراع بين الشرق الشيوعي – القومي- التقليدي من جهة ، والغرب الليبرالي وحلفاؤه من جهة ثانية ) ، ولم يكن الصراع مع إسرائيل سوى نقطة التماس الساخنة بل الملتهبة بين منظومتي : الشرق والغرب ، ولايمكن تفسير دعم الجبهة الليبرالية لإسرائيل بغير كونها جزءا من تلك الجبهة ، مثلها في ذلك مثل بلدان عربية وإسلامية معروفة ، وما تشويه الصورة ، وتضخيم بعض زواياها وجوانبها ، سوى جزء من مستلزمات ومتطلبات التحريض والتعبئة العنصرية القومية والدينية ، ليس ضد إسرائيل ، بقدر ماهي ضد الحرية والديمقراطية الظافرة ، وتجلياتها الجديدة ، بعد زوال الشيوعية ، والنظام الدولي ثنائي القطب، ( شيوعي – ديكتاتوري ، وغربي- ديمقراطي ) الذي كان يشكل مظلة للاستبداد والديكتاتوريات القومية الاشتراكية . لقد أصبح النظام العالمي الجديد أحادي القطب والقوة المتمثلة بالحرية والديمقراطية ، المتمثلة بالبلدان المنضوية تحت مظلتها ، ولكن القطب الآخر لا يزال له حضور من خلال ذيول ومخلفات وبقايا النظام القديم من الدول والبلدان التي كانت منضوية تحت مظلة المسكر الشيوعي ، ولكن هذا القطب ضعيف جدا ، وهذا سبب خوفه وهلعه من رياح التغيير العاصفة التي تهدد وجوده وحياته وبقاءه ، وهذا ما يفسر تخبطه السياسي الواضح .

السوق السياسية السوداء :

بزوال الكتلة الرئيسية للمعسكر الاشتراكي ، فقدت الديكتاتورية السورية إحدى أقوى ركائزها الشرعية الثورية : الركيزة الدولية . وبوفاة عميد النظام السوري الديكتاتوري : حافظ الأسد ، وتولي ابنه بشار الحكم ، بلغت سوريا من الضعف والعزلة والتخبط مستوى يؤكد قرب انهياره وزواله من الساحة التاريخية ، ولم يعد الحكم الأسدي يشتغل بالسياسة ، بل بالسوق السياسية السوداء ، ونادي القمار السياسي ، وشخصنة الرؤية والقرار السياسي ، وهو أسلوب محكوم علية بالخسارة والهزيمة والفشل آخر المطاف .

القنبلة الموقوتة :

وتحت مظلة المجتمع العسكري/الأمني/ الملحق بالديكتاتور الفرد ، من الأبعدين إلى الأقربين والمقربين ، تنمو وتترعرع المنظمات والحركات والمدارس والجمعيات الدينية، الحاضنة الفكرية والنفسية والأخلاقية والتنظيمية للسلفية التكفيرية، القنبلة الموقوتة الجاهزة لتفجير المجتمع بأشكاله وأسمائه المدنية والسياسية والقانونية، والسير به إلى الجاهلية الدينية العمياء، التي لامكان فيها للشرع والعقل والاجتهاد والفقه والشورى وسائر القيم الإسلامية الإيجابية الخلاقة والقادرة على الإبداع والتجدد والتجديد والبناء على ما يمكن البناء عليه، ونبذ كل سلبي ضار ومخالف لضرورات التعايش الإنساني الحر المشترك والسلمي، وللمبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي وقعت علية سائر بلدان المعمورة. وتتشكل التربة الملائمة للأنشطة الأهلية/العصبية بالاتجاه السلبي لمسيرة التمدن والارتقاء الاجتماعي/الإنساني نحو مزيد من التعددية السلمية التكاملية المتفاعلة والمنتجة للوحدة الاجتماعية ، بتحكيم الإرادة الفردية والجماعية الحرة ، واحترام الكرامة ، وحرية التنوع والاختلاف والتمايز والخصوصية ، وتوظيفها جميعا لإثراء وتنمية الحياة الاجتماعية المشتركة ، وجعلها بيئة عائلية متوازنة وصحية ومتعاونة ، ومحفزة للفرد عملا وإبداعا ماديا ومعنويا .

الموقف الواقعي من المجتمع الأهلي :

المجتمع الأهلي/ العصبي هو أمر واقع ، لاسيما في البلدان غير المتطورة ، وله دوره الأساسي الذي لايمكن إغفاله وتجاهلة أو تجاوز تأثيره في الحياة الاجتماعية ، وهو ليس سلبيا بذاته ، لاسيما وأنه يعيش في هذا العصر وهذا العالم المعولم المفتوح على ذاته ومكوناته ، والمتصل بل والمتلاصق ببعضه لدرجة استحالة العزلة فيه والهروب من عدساته وأضوائه المسلطة في الاتجاهات والعمق ، والمخترقة للأجسام والحواجز غير الشفافة . المجتمع الأهلي بأنواعه يملك الصحون اللاقطة والهواتف النقالة والحواسيب والتقنيات الأخرى ، ويعيش جنبا إلى جنب مع المجتمع المدني والسياسي والدولي ، ويستحيل على المجتمع الأهلي أن يكون كما كانت عليه حاله في المرحلة التاريخية ما قبل الرأسمالية ، لقد تعرض لتأثيرات الحضارة الجديدة منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، وقد مارس أدوارا مهمة في تلك المرحلة ، فيها الإيجابي والسلبي معا .

المجتمع الأهلي بعشائره وقبائله وطوائفه لا يزال يشكل كتلة اجتماعية رئيسية في سوريا كما في غيرها من البلدان العربية والإسلامية ، وهذه الكتلة لاتعمل خارج الواقع الاجتماعي العام ، بل داخله وفي إطاره وسياقه التاريخي السياسي والثقافي العام ، فإن كان السياق السياسي ليبراليا/ديمقراطيا ، فسوف يتأثر المجتمع الأهلي إيجابا ، ويلعب دورا رافدا باتجاه المجتمع المدني والسياسي الحر ، وسوف يسير باتجاه الاندماج التدريجي بالمجتمع الحديث ، الذي ينطلق بالمجتمع الأهلي أكثر فأكثر نحو الانخراط بالعملية السياسية الديمقراطية المتنامية والمتجهة نحو الحداثة ، والمهم في الأمر هو كيفية التعاطي السياسي مع المجتمع الأهلي ، وتسييسه ، وجعله يتقبل الديمقراطية شكلا ومضمونا ، فكرا وممارسة ، وبالشكل الذي يناسب الخصوصية الملموسة المتجسدة في الواقع ، وعلى سبيل المثال يمكن تطبيق الديمقراطية في بلد يلعب فيه المجتمع الأهلي الدور السياسي الأكبر حجما ومساحة ، كما هو الحال في لبنان ، حيث المجتمع المدني والسياسي في لبنان لا يزال يتأسس وينبني على المجتمع الأهلي في تجربة فريدة وخاصة ، وهذا يؤكد أن المجتمع الأهلي ليس بالضرورة عائقا وبالمطلق للعملية السياسية الديمقراطية ذات الهوية الأهلية الخاصة ، بل يمكن أن يكون مساهما في بناء وتطوير المجتمع السياسي/المدني لو سارت الحركة الاجتماعية في السياق المدني/الديمقراطي الصحيح والسليم ، أما في ظل السياق الاستبدادي الديكتاتوري الذي يواظب على خنق أجنة وبراعم الليبرالية/الديمقراطية ، والتضييق على المجتمع الأهلي ومحاولة ترويضه وتدجينه لمصلحة الحكم المطلق ، في ظل واقع ديكتاتوري كهذا ، لايمكن للمجتمع الأهلي أن يلعب الدور الإيجابي المنشود ، وقد تتعزز فيه النزعات العصبية العدوانية كرد فعل متاح ، وكنوع من الدفاع عن الذات الجمعية وحمايتها ضد السلطة الفردية المستبدة ، وتغدو النزعات العصبية : ( العشائرية والقبلية والطائفية ) المتنفس الأسهل عن احتقانات الإرادة ، والكرامة ضد الاستباحة والتعديات والتسلط في كل لحظة ، والسبيل الوحيد لغريزة الاجتماع الفردية ، وهذا ما يفسر غلبة وشيوع الظاهرة العصبية على ما سواها من الصلات والروابط والانتماءات المدنية والسياسية ، التي تم تغييبها ومكافحتها بلا هوادة ، كما هو حاصل في سوريا ، التي تقمع أي نسمة أو همسة ليبرالية/ديمقراطية ، وتتغاضى عن الأنشطة العصبية ، الذي تتخذ منحى سلبيا تناحريا متفاقما ومتأزما ، ينذر بعواقب خطيرة ، لا تحمد عقباها ، وتشمل بأضرارها المجتمع بأكمله ، وبدأ تأثير النزعات العصبية يشمل الشرائح المثقفة ، ممن يعملون في الحقل المدني والسياسي الرسمي وغير الرسمي ، ولهذا التوجه تأثير بالغ السوء على المستقبل الاجتماعي السياسي الوطني لسورية . وتلك هي النتيجة المتوقعة لأهلنة المجتمع المدني والسياسي بدلا من تمدين وتسييس المجتمع الأهلي/العصبي ، وهو الواجب والاستحقاق الديمقراطي الأكثر أهمية في بلد كسوريا .

المشكلة والحل :

خلال فترة الحكم اللاديمقراطي الأسدي ، انتقلت سوريا من السياسي إلى القبلي والطائفي ، فكانت فترة انقطاع عن المدني والسياسي ، ما وضع المجتمع الأهلي في الطريق المعاكسة لوجهة التطور الطبيعي ، التي كانت قد بدأت في مطلع القرن العشرين ، وفي مناخ غياب الحرية ، والإدارة الفردية الديكتاتورية العشوائية للبلاد والعباد ، تحولت الكتل والتنظيمات العشائرية/القبلية/والطائفية/والعرقية إلى ملجأ وملاذ وحضن ، يتم فيه تفريغ الطاقة الاجتماعية/السياسية/ للمواطن ، ولحماية إنيته وكرامته الإنسانية من التعديات العشوائية للسلطة اللاعقلانية ، وساهم الوضع الاستبدادي في تقوية النزعات العصبية والطائفية التناحرية بين الكتل الأهلية ، وزاد من انغلاقها عن بعضها البعض ، ومن تنابذها وتنافرها ، وانعدام الثقة فيما بينها وتعززت المشاعر العدائية فيما بينها ، ويشكل هذا الواقع المفخخ خطرا وشيكا على الجميع ، وخاصة في ظروف تغييب القوة المدنية/السياسية/الديمقراطية/المعارضة ، أو على الأقل ضعف وجودها وقوتها الفاعلة على الساحة السورية ، وعجزها عن لعب دور البديل المرشح لكسب المنافسة في المباراة والسباق المقبل إلى السلطة .

على القوى المدنية/السياسية/الديمقراطية أن تتيقظ ،وتحرص على عدم الوقوع في شرك المسلك العشائري /القبلي /الطائفي / والعرقي ، وأن تعمل على تجاوز تفككها وتشرزمها وضعفها ، من خلال البحث عن صيغة تحالفية تحولها إلى قوة مؤثرة وقادرة على تولي وإنجاز مهام المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية بأقل ما يمكن من الخسائر والأخطاء والكلفة ، ، ولابد من وصل ما انقطع مع تراثنا الديمقراطي السوري الأصيل ، الذي كان قد بدأ منذ بدايات القرن الماضي ، ونما وتطور واغتنى خلال نصف القرن الماضي ، فكان تجربة سورية بمعنى الكلمة ، وكانت ديمقراطية وطنية شكلت خلفية ورصيدا ومناخا صحيا لتطور المجتمع الأهلي بالاتجاه المدني/السياسي ، وبالاتجاه الذي يبني الوحدة واللحمة الاجتماعية بين الكتل الأهلية المتنوعة ، والتي لعبت دور الشريك الندي الحر ، وليس دور التابع للسلطة ، كما هو الشأن حاليا مع السلطة الفردية الديكتاتورية التي تمضي بنا جميعا نحو الكارثة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى