أيمن الشوفيصفحات الناس

سوريا: السلطة تدخل مجلس شعبها بكلمتين/ أيمن الشوفي *

 

 

 

تعالت صور المرشحين لانتخابات مجلس الشعب فوق قامات المارة، تارةً تجتذبها اللوحات الإعلانية الطرقيّة فتحبسها في الأعلى داخل إطاراتٍ مستطيلة، وتارةً تتلقفها الواجهات الزجاجية للمحال التجارية وجذوع أشجار الزينة، فتضعها في بؤرة الرؤية المباشرة.

الصور ترمي الناس بأي كلام، أغلبهُ مصفوف بعجالة، إذ غابت البيانات الانتخابية للمرشحين. فحجّةُ المنافسة على أصوات الناس معدومة، والسلطة خاضت هذه الانتخابات بمفردها، بعدما قاطعتها أغلب قوى المعارضة الداخلية.

مرشّحون من لونٍ واحد

تستلقي صورة المرشّح على كامل مساحة الملصق الدعائي، يعلوها اسمه، فيما تتعلق حروف الشعار الانتخابي بوسط الصورة أو في ركنها السفلي، من دون أن تتحاور تلك الدعاية مع الذي يراها. تجعلهُ فقط يشيحُ ببصره عنها، وأحياناً تحثّهُ على مَزعِ طرفها غير المثبّت بالغراء جيداً، والتشفّي منها بهذه الفعلة الخاطفة. بعضهم يسخر من سحنة مرشحٍ لم يرهُ من قبل، فيعيد معالجةَ صورته بقلم حبر، يضيف عليها شامة فوق الخدّ الأيمن، أو شارباً كثّاً، أو لحية. هكذا يحتجّ الناس على مكوث الصور أمامهم.. قوائم “الوحدة الوطنيّة” ستدخل كاملة إلى مجلس الشعب. وتلك هي الاسم المحسّن لغوياً لما كان يعرف سابقاً بقوائم “الجبهة الوطنية التقدّمية” بزعامة حزب البعث. عددهم 182 مرشّحاً، وأما باقي المقاعد الشاغرة البالغ عددها 68 مقعداً فسيملؤها المرشحون المستقلون المقرّبون من النظام. بهذا تضمن السلطة مجلساً من لونٍ واحد، يجري بين أعضائه دمٌ واحد. “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي” أعلنت مقاطعتها الانتخابات ترشيحاً ومشاركة، ومثلها فعلت “جبهة التغيير والتحرير” المعارِضة، في حين سحبَ “حزب الشباب الوطني” مرشّحهُ الانتخابي من هذا المشهد المأزوم، العصيّ على أيّ انفراجاتٍ حتى طفيفة.

شعارات قوامها كلمتان

اختار المرشّحون لدخول مجلس الشعب ديباجاتٍ لغويّة ممجوجة صاغوا منها شعاراتهم الانتخابية، رسالتهم إلى ناخبهم المفترض. اللافت في أغلبها أنه جاءَ من كلمتين أو ثلاث مدموغة تحت اسم المرشّح، على يسار الصورة أو على يمينها، أو حتى في أسفلها. مثل “صوتكم صوتي”، أو “بكم نرتقي”، أو “عم فكّر متلك”، أو “العمل كل ما أملك”، أو إنتو وأنا سوا”، أو “معكن وإلكن”، أو “معكن منعمّرها”، أو “معكن قول وفعل”، أو “صوت الشعب في مجلس الشعب”.. تبدو تلك الشعارات عائمة فوق واقعٍ اقتصاديٍّ اجتماعيّ لا يشبهها بشيء، ولا يوقظ أيٌّ منها شهيّة الناس إلى الصراخ والاحتجاج على حياةٍ مأزومة لا تفارقهم منذ سنوات. بعض تلك الشعارات يصلح أكثر لأن يكون مطلع أغنية “عتابا”. تعيش ديباجات تلك الشعارات عقيدتها الخاصة حيث لا يخالطها وجع الناس، بل وتتجنّب الإتيان عليه، كأنهُ وجعٌ لا يخصّها. لا برامج انتخابيّة تدلل على جديّة المرشّح في خدمة الناس، ولا جولات يمرّ فيها النائب المحتمل على ناخبيه المحتملين، فقط خيمٌ انتخابيّة قليلة لا تغري أحداً بدخولها، لا أحد يريد سماع مكبرات الصوت وهي تُفرغ جعبتها من الأغاني الحماسيّة الموائمة لمزاج “الدبكة”. الكلّ يبحث عن لقمته الضائعة.

قدّرت اللجنة القضائية الخاصة بانتخابات مجلس الشعب عدد المرشحين بنحو 11341 مرشحاً. ويغيب عن هذه الانتخابات مرشّحو وناخبو محافظتي إدلب والرقة اللتين صارتا خارج سلطة النظام السوري، كما أنّ الحرب والهجرة بظروفهما الملتبسة قلّصتا من عدد حَمَلة الشهادات الجامعية المرشّحين إلى مقاعد المجلس، بحيث لم يتجاوز عددهم هذه المرّة 8 في المئة من إجمالي عدد من ترشّح.

حين كان للمرشح برنامج انتخابيّ

تبدو هذه الانتخابات، كما غيرها، أشبهَ بمسابقة توظيف تجريها السلطة لملء الشواغر في إحدى المؤسسات الحكوميّة، وإن كان مجلس الشعب، بحيث تنحصر مهمة موظفيه المحسوسة واقعيّاً بدراسة مشاريع القوانين وإقرارها لا أكثر. وهذا قائمٌ منذ أربعة عقود. قبلهُ كانت انتخابات البرلمان السوري بمثابة مرآة تعكس حضور الطيف السياسي في الشأن العام، قوى اقتصاديّة اجتماعية ممتدة من اليمين إلى اليسار تتنافس على السلطة. وكان الظفر بثقة الناخب هدفاً يحضّر المرشّحون من أجله البرامج الانتخابية. كانوا يعلمون بأن لصوتِ الناس قيمة ترفع من أسهمهم أو تخفّضها. وإنْ عدنا إلى الانتخابات البرلمانيّة التي جرت عام 1954 مثلاً، لوجدنا أن صورة المرشّح في منشوراته الدعائيّة كانت لا تحتلّ سوى حيّزٍ يسير من أعلى المنشور إلى جهة اليسار، فيما يظهر البرنامج الانتخابي للمرشح على كامل الملصق الدعائي. لم يكن حينها أحدٌ قد اهتدى بعد إلى فضائل الشعار الانتخابي المُصاغ من كلمتين. نقرأ في البيان الانتخابي لخالد بكداش، مرشّح الاتحاد الوطني عن دمشق مثلاً “توطيد الانتصار الوطني الذي تحقق بجلاء الجيوش الأجنبيّة عن سوريا، واستكمال أسباب الاستقلال الوطني، ورفض الارتباط بأي معاهدة أو حلف استعماري حربي كحلف تركيا الباكستان، والمساعدة العسكرية الأميركيّة، والمشاريع الاتحاديّة المزيّفة، وتوطيد أسس النظام الجمهوري الديموقراطي البرلمانيّ، وإطلاق الحريّات الديموقراطيّة: حريّة الصحافة والرأي والكلام والاجتماع وتأليف الجمعيات والأحزاب السياسية والحريات النقابيّة…”.

أيضاً يطالعنا البيان الانتخابي لعصام المحايري مرشّح الحركة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة في دمشق بالتالي: “إشاعة الإخاء القومي، وبناء النفوس في العقيدة القوميّة الاجتماعيّة، فلا طوائف ولا طبقات، بل أمة واحدة، مجتمع واحد تسوده عصبيّة واحدة هي عصبيّة الأمة القوميّة، وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل وجعله منتجاً وصيانته من استبداد الرأسماليين والإقطاعيين، وصيانة مصلحة الأمة والدولة بحماية إنتاجنا، وتحديد الأرباح والاهتمام بالأسواق الخارجيّة، وتعميم التعليم القومي وجعله إجبارياً ومجّانيّاً…”.

نبتعد عن رجالات السياسة في الخمسينيات، لنقرأ في البيان الانتخابي للدكتور محمد الرفاعي صاحب مستشفى الرفاعي آنذاك: “المحافظة على النظام الجمهوري البرلماني، العمل على تحرير الأقطار العربية المستعمَرة، عدم ربط البلاد مع أيّ حلف استعماري مع الغرب، العمل النضالي لاسترداد فلسطين المقدّسة، ولواء الاسكندرون، تطبيق نظام التأمين والتأميم الطبيّ المجاني، تطبيق نظام الضمان الاجتماعي ضد الفقر والبطالة والمرض والعجز، تعميم بناء المساكن الشعبية، زيادة رواتب وأجور الموظفين والعمال، مكافحة الغلاء والاحتكار والغش، تشجيع الزواج ومكافحة البغاء السريّ…”.

.. الآن لم يعد مجلس الشعب السوري مكاناً لاقتسام السلطة، وتبادل الأدوار، لا تنبثقُ عنهُ حكومةُ الأكثريّة، وليس فيه معارضة الأقليّة، هو أشبه بأي دائرةٍ حكومية تسيّر عملها مجموعة موظفين إداريين. وربما لم يختلف الظرف الموضوعي كثيراً في خطوطه العامة بين اليوم وبين خمسينيّات القرن الماضي. نستشف ذلك من البيانات الانتخابية للمرشحين حينها، فلا ضير إذاً من انتخاب أحد النوّاب الميّتين شرط اقتناعنا ببرنامجه الانتخابي، حتى وإن كان مقتضباً كالبيان الانتخابي للمرشح المهندس عارف الحسامي في انتخابات عام 1954 وهو ينادينا إلى الآن “أيها العامل الكادح، أيها الفلاح المكافح، أيها المواطنون الأحرار. بانتخاب المهندس الزراعي والخبير الاقتصادي عارف درويش الحسامي تقيم لنفسك سدّاً منيعاً ضد الفقر والجهل والمرض، وتقضي على الإقطاعيّة والاستثمار، والبطالة”.. على الأقل لم يكن بيانه الانتخابي من كلمتين فقط.

* صحافي من سوريا

السفير العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى