أحمد عمرصفحات الناس

سوريا السويسرية/ أحمد عمر

 

 

قال مفتي البراميل وحسناوات مسابقات الجمال في عز الحرب، البكّاء صاحب الدمعة الحاضرة، جاعل إسرائيل جزءاً من بلاد الشام في خطاب معروف، المتمتع بمواهب تمثيل قلَّ نظيرها، “أنّ سوريا لولا المقاومة لكانت مثل سويسرا”، ولو صدق لقال: لولا الأسد لكانت سوريا مثل سويسرا.

والحق – وهذه ذكريات حاربها الأسد كما لو أنها طاعون – أنها سبقت سويسرا في كثير من مضامير الحضارة، فسويسرا لم تمنح حق الانتخاب للنساء إلا في سنة 1972، وكانت المرأة السورية قد حصلت على حق الانتخاب في 1949، سابقةً سويسرا بما يزيد عن عقدين، واليونان بعقد 1958. أما أول ناد نسائي عرفته دمشق، فقد أسسته نازك العابد بنت رئيس الجمهورية محمد علي العابد في سنة 1919، وفي سنة 1922 كان في سوريا ثلاث منظمات نسائية. وعقب الحرب العالمية كانت سورية تتعامل بالعملتين العثمانية والمصرية، وكان الجنيه المصري وقتها أقوى عملة في العالم. ويروي خالد العظم في مذكراته فصلاً عن نضاله في تأسيس عملة سوريّة، وما يزال اسم العملة في سورية مصاري، غلب عليها اسم النشأة، لكنها صارت في الحضيض، فلم يخطر لزعيم سوري أن يطبع صورته على العملة قبل الأسد.

ويقرُّ الجمع ممن ضمّ مجلسنا، أن شهادة الابتدائية في ذلك الزمان تعادل شهادة جامعية من تلك التي حصل عليها رفعت الأسد أو بشار الأسد. كان العابد مثلاً، حائزاً على شهادتي دكتوراه، ويجيد سبع لغات، ويتبرع براتبه للدولة التي صار اسمها سورية الأسد. وكان العظم متخرجاً من السوربون، ويجيد الفرنسية، والعجيلي طبيباً، وثلاثة رؤساء رابعهم بشار الأسد أطباء، ولا نعرف إن كان الأخير قد حصل على المجموع العام في الثانوية بذكائه وتحصيله، أم بالمنجل والمنكوش، فمن يغش في إرادة الأمة، سيغش في أمر شهادة جامعية، لن تكون سوى للزينة والفخر. قال رفعت الأسد وقد سربت له المقررات كلها في امتحان شهادات كلية الحقوق: العمى جيبوا لنا حدا يدلنا على الأجوبة.

كان الرؤساء بشراً، يعيشون بين أبناء الشعب، ليس لهم سوى أجورهم، وحارس واحد فقط بدوام نهاري، يركبون المترو مع الناس، وقد سبقت دمشق برلين بثلاث سنوات في تركيب المترو الكهربائي سنة 1904، ويروي محمد أبو صالح في شهادته على العصر، إن شكري القوتلي كان يذهب إلى المسجد بالشحاطة، ويشرب الشاي قبل الصلاة مع شباب الحي. ويحكي جيران شكري القوتلي في الحي إنهم كانوا صغاراً ينفسون دواليب سيارته، ويدفعونه إلى الذهاب مشياً إلى قصر الرئاسة. أما قصص هاشم الأتاسي مع سيارة الرئاسة، التي كان يتركها خارج حمص، أو قصة إسعافه إحدى قريباته في سيارة الرئاسة، التي ضجت بها الصحافة يومها، وغيرها من القصص، فسويسرية.

وكان عدد الصحف السورية عقب الثورة السورية الكبرى 1926 أكبر منها في عهد الأسد التي وصفت صحفه الثلاث بأنها واحدة بثلاثة أسماء. وفي سنة 1948 كان عددها 45 جريدة، لأربعة ملايين نسمة، منها جرائد صباحية، وأخرى مسائية.

ونشرت صحيفة الشباب رسالة لناظم القدسي، رئيس الجمهورية إلى رئيس بلدية حلب يقول فيها: عطفاً على رسالتكم رقم.. نرغب إليكم في تعبيد حارتنا، ومن ذلك أنّ عبد السلام العجيلي، الذي شغل ثلاث وزارات، روى في مذكراته “أيام السياسة” المنشورة عن دار الريس، إنه في زيارة له لحلب، اتصلت به عاملة مقسم البريد تستأذنه، بأن رئيس الجمهورية ناظم القدسي يريد أن يتصل به، فهل يسمح للبريد بإعطائه رقمه الهاتفي، فاعتذر، وكان قد ذكر هذه الذكرى في أحد الأندية، ويدير الندوة نجاة قصاب حسن، فترجاه ألا يعيد ذكر هذه المعلومة، حرصاً على الشعور القومي من الضعف، أو توهيناً لروح الأمة. وقتها صفّر الجمهور، وكأنه يشاهد فيلماً لماشيستي.

ويروي أصدقاء لنا، رأوا ما لا عين رأت، لا في سويسرا ولا في فنلندا، أن شكري القوتلي في زيارة لحلب أمسك أحد المتظاهرين بتلابيبه، وهو يصرخ: شكري بيك بدنا حرية، فقال: اتركني يا ابني، رح تخنق رئيس الجمهورية، شو بدك حرية أكتر من هيك. قال هذا أو شيئاً مثله.

وهناك صفحات سورية تحنّ إلى الماضي، مثل صفحة عماد الأرمشي، وغيرها، تجد فيه سورية السويسرية، وقد دمر الأسد كل سورية بشراً وحجراً، طمساً لهذه الذكريات، ووقع اتفاقيات مع الاستعمارين الروسي والإيراني من غير عودة إلى الشعب، الذي صار خارج الأرض، أو تحت الأرض، وأخبرني معاون وزير سابق من عهد الأتاسي، اسمه عثمان أبو نادر وأنا أستذكر معه سوريا الستينيات، فلم يتمالك دموعه، وهو يندب موت نهر العاصي، كان الأسد بالفساد قد حول أنهار سوريا العذبة إلى مجارير. كانت الانقلابات كثيرة، وأعراضاً لصراع سياسي لم تكتمل شروطه، كانت غالباً سلمية بيضاء من غير دماء.

كانت سويسرا مثل سوريا بهويات غير متآلفة، ومن المعلوم أن سويسرا عاشت حرباً أهلية طاحنة، ثم نأت بنفسها عن الحروب الأوربية، وهي تعيش حالياً على فوائد أموال رؤسائنا المقاومين.

وكانت سوريا قبلة لتعلّم الديمقراطية الوليدة، وتأتيها وفود يابانية لتعلم الديمقراطية. ويذكر العظم في مذكراته أن علة سوريا هي في صعود العسكر إلى السلطة،   وهو يشبه قول السفيرة البريطانية جين ماريوت، في تقريرها عن التعليم في العالم العربي في مجلس العموم البريطاني: النظام التعليمي في العالم العربي يؤدي إلى مفارقات مدهشة، فطلاب الدرجة الأولى من الأذكياء يذهبون إلى كليات الطب والهندسة، بينما يذهب  خريجو الدرجة الثانية إلى كليات إدارة الأعمال والاقتصاد، وبذلك يصبحون مدراء لخريجي الدرجة الأولى، في حين أن خريجي الدرجة الثالثة يتجهون للسياسة، فيصبحون ساسة البلاد، ويحكمون خريجي الدرجتين الأولى والثانية. أما الفاشلون في دراستهم، فيلتحقون بالجيش والشرطة، فيتحكمون في الساسة، ويطيحون بهم من مواقعهم، أو يقتلونهم إن أرادوا. أما المدهش حقاً، فهو أن الذين لم يدخلوا المدارس أصلاً يصبحون شيوخ قبائل يأتمر الجميع بأمرهم.

نحن نقرأ مذكرات للساسة السنّة مثل الحوراني والعظم والعجيلي، وحتى مذكرات بعثيين مثل فاروق الشرع في “الرواية المفقودة”، ووزير الدفاع مصطفى طلاس في  “مرآة حياتي” ، ونرى شهادات سورية على تلفزيونات عربية، مثل شهادة أحمد أبو صالح، وعبد الكريم النحلاوي في “شاهد على العصر”، وعصام العطار في “مراجعات” وغيرها، لكننا لا نجد شهادات لقادة السلطة الحقيقيين، الذين يحبون صدقة السر، واحتساب الأجر والثواب في البنوك السويسرية.  فماذا سيكتب أحمد الخطيب مدير سجن تدمر، أو حافظ الأسد، أو بشار الأسد، هل سيروي الأخير قصص سهر الليالي عاكفا على الكتب لاختراع سلاح البراميل في مخابر الجامعة العلمية، أم طرق استخدام السارين، أم كيف تولى السلطة في ساعة من نهار؟ الكتاب الذي كان الأسد الأب معجبا به، وجامعا لسيرته هو لباتريك سيل، كان قد منعه من التداول!

عندما تسمع المفتي الوسيم، الضاحك، يغرد فوق الشجرة، ويقارن سوريا بسويسرا، تجده غريباً، فمن يتابع التلفزيونات السورية، يشعر بأن الشعب السوري سويسري، بل إنه يعيش في المدنية الفاضلة، بفضل الرئيس طبعاً. يبقى أن سورية، التي بلغت علمانيتها الذروة في السنوات الأخيرة، كثر ظهور المفتي، على الشاشة، وفي المؤتمرات السياسية المحلية والعالمية.

سقط الدب عن الفنن.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى