أيمن الشوفيصفحات الناس

سوريا المناطق الآمنة: النزوح والاستثمار/ أيمن الشوفي 

 

 

 

يتخلّص النازحون من طوفان ذكرياتهم وهم يعبرون خطوط الاشتباك اليوميّة المرسومة بعناية، وخطواتهم تَحِيدُ عن مسارات الدم والخراب. يقصدون النجاة في وجهاتهم المنتقاة تلك، ووجهاتهم تدلّلُ أيضاً على مواقفهم من الصراع القائم، وتشير إلى الأماكن التي جاؤوا منها. فالنازحون المعارضون للنظام تشتتوا في دول الجوار، أغلبهم ارتحل إلى مخيّماتٍ بائسة في لبنان والأردن وتركيا، فيما قصدَ قسمٌ من النازحين الموالين المناطق الآمنة، ولم يقطنوا في مخيّمات الإيواء التي أنشأتها السلطة في مقارّ معسكرات ما تعرف بطلائع البعث، وشبيبة الثورة، بل استأجروا مساكن، مواظبين بذلك على حياتهم التي اعتادوها، لكنهم في آن واحد حوّلوا مع سواهم من السكان المحليين مناطق سيطرة النظام إلى أسواق استثمارية تُقادُ إليها فوائض العملة الورقيّة الناشئة عن اختلالٍ عميق في توزيع الدخل القومي، والمتراكمة أصلاً لدى مراكز النهب الطفيلي، ولدى ساسة الحرب الجدد.

واقعٌ ديموغرافيّ جديد

يترك النازحون خلفهم اختزالاتٍ متقنة للذي كانوا يملكونه، يمضون إلى منافذ الخلاص المتاحة أمامهم. وهذا يشبه تجاوزَ صدمة الولادة من جديد. تُذكّرنا مفوضية شؤون اللاجئين

في سوريا: التداوي بأنماطٍ إنتاجية جديدة

التابعة للأمم المتحدة بأعداد النازحين داخل سوريا والبالغة نحو 7.6 ملايين شخص. هؤلاء اهتدوا إلى المناطق المستلقية بعيداً من ظلال الحرب. قصد النازحون الموالون من حلب مدينتي اللاذقيّة وطرطوس بصورةٍ أساسيّة، فيما توجّه النازحون الموالون من ريف دمشق إلى السويداء. وبعد عام واحدٍ من تحوّل انتفاضة آذار/ مارس 2011 إلى نزاع مسلّح، هُجّر قرابة 750 ألفاً من سكان ريف دمشق، ثلثهم فقط قصد مركز العاصمة، فيما تبعثر الثلثان بين مناطق آمنة من ريف دمشق، وبين محافظة السويداء في جنوب البلاد. وبحسب دراسة نشرتها وسائل إعلام رسمية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، فإن مدينة اللاذقية استقبلت 1.5 مليون نازح طردهم الاقتتال العسكري من حلب وريفها، بينما توافد قرابة المليون نازح إلى محافظة طرطوس الساحلية أغلبهم جاءها من حلب وحمص وحتى من ريف دمشق البعيدة منها. أيضاً استقبلت مدينة السويداء قرابة 550 ألف نازح جلّهم من ريف دمشق ومن محافظة درعا القريبة منها. لكن المحافظات الآمنة الثلاث مجتمعة لا تشكّل سوى 5.26 في المئة من المساحة الإجمالية للبلاد، قصدها خلال عام 2012 فقط حوالى 2.5 مليون نازح، وهذا أربك معادلة العرض والطلب على العقارات، ما رفع بدل الإيجار إلى نحو 5 أضعاف ما كان عليه في عام 2011. مجدداً تستقوي الربحية الطفيليّة هنا على ملامح الأزمة الإنسانيّة المرتبكة التي يعيشها النازحون، وتتدخل المقولات البراغماتية وكأنها بوصلة يتبعها الجميع، لتعيد تثبيت الواقع بصورةٍ ماديّة تحمل تجريداً قاسياً لاستثمار اللحظة المعيشة قدرَ المستطاع.

شمّاعة جديدة للثراء

بدّلت سنوات الاقتتال الماضية مفهوم السوق المحليّة داخل المحافظات الثلاث الآمنة، جاعلةً إيّاها سوقاً مفتوحةً تقوم على معطيات المضاربة بمعناها الفجّ، وعلى احتكامات زائفة أساسها إقحام تذبذب سعر الصرف كمعطى وحيد لتحديد المستوى العام للأسعار، وكذلك للمحافظة على الربحيّة التجارية الطفيليّة ضمن مستوياتها العليا، وهذا انعكس على مسارات الاستهلاك بصورةٍ أساسيّة، وتقلّص معه استهلاك الفقراء إلى مستوياتٍ متدنيّة لا تتعدّى الحاجات الأساسية، فيما توسّعت قاعدة الاستهلاك النوعيّ لدى المنتفعين من نِعَم الحرب، أو المندمجين الجدد ضمن هرميّة النهب العام، أو الذين يستقبلون حوالاتٍ شهرية بالقطع الأجنبي من ذويهم في الخارج، بحيث لم تتضرر بنية القدرة الشرائيّة لهذه الفئات ضمن الأسعار الجديدة المتقلبة كل يوم.

غيرَ أنّ النازحين هم الذين تحمّلوا نظرياً ملامة ارتفاع الأسعار في المناطق الآمنة بحجّة أنّهم رفعوا الطلب العام على السلع، وكأن العرض من السلع لم يرتفع بالمقابل، حيث ظلّ هذا المعطى الركيك شمّاعةً تُعلّق عليها السلطة فشلها المتواصل منذ عام 2012 في إدارة الشأن الاقتصادي للبلاد، كما وجد فيها أيضاً كبار التجار والمضاربين والسماسرة فكرةً مبتكرة تضمن تسويقاً آمناً يبرر أرباحهم التي تعاظمت بصورةٍ لافتة خلال السنوات الماضية، إذ ليس ارتفاع أسعار العقارات أو إيجاراتها، ولا حتى ارتفاع أسعار السلع، هما المعطيين الكلّيين المستخرجين من تنامي حركة النزوح باتجاه المحافظات الثلاث الهادئة ـ وهذه باتت أشبه بالمَحافِظ الاستثمارية لجهة تحقيقها عوائد توظيفيّة عالية للكتلة المالية التي تجذبها ـ ولكن الملاحظ على نحوٍ جليٍّ أيضاً انصياع الاستثمار إلى الوجهة العقارية أكثر من سواها في محافظة كالسويداء ذات الغالبية الدرزية، لتبدو وكأنها خارجة عن نسق الخراب الذي يطوف منذ أعوام حول باقي أرجاء البلاد، فلم يشفع للنازحين انكسارهم المرير الذي رافق ترحالهم وهم يدفعون ضريبة نزوحهم بصورةٍ مضاعفة، مرّةً حين خسروا أملاكهم، ومرّةً حين صاروا طرائد سهلة لجشع السكان المحليين الذين لم يترددوا في طلب بدلات إيجارٍ مرتفعة… وكأن النازحين جاؤوهم من بلادٍ أخرى. تشير تقديرات المتخصصين هناك إلى أن أسعار العقارات تضخّمت أربع أو خمس مرات عمّا كانت عليه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، الأمر الذي رفع الطلب على المواد الأولية للبناء والإكساء، ما جعل أسعارها هي الأخرى تصاب بوذمةِ تضخم جديدة بدأت أواخر عام 2012 وما زلت تسجل ارتفاعاً دوريّاً حتى الآن.

الاستثمار بعيداً من الحرب

يستحوذ القلّة فقط على مفاتيح الموانئ السوريّة. من يمسكُ بها يمسكُ بتجارة البلاد، ويصير جزءاً من عقود الاستيراد والتصدير. وهذه واحدة من أهم وصفات الثراء خلال الحرب، ولا ننسَ أنّ رئيس الحكومة السابق وائل الحلقي تحدث عن 25 شخصاً فقط يستوردون البضائع لكل سوريا، وهم الذين يتحكمون بواردات البلاد السلعية ويقترحون أسعارها أيضاً، ثم تتفرّع مستورداتهم إلى حلقات التوزيع الرئيسة، ومعها تتخذ الأسعار تعريفات جديدة يتم تحصيلها من جيوب المستهلكين في نهاية المطاف. ولأنّ المحافظتين الساحليّتين ظلّتا بمنأى عن تسلّط الدمار، فإن السلطة أوكلت إليهما القسط الأكبر من الاستثمارات السياحيّة خلال السنوات الماضية، في محاولة منها لاسترضاء الكتلة النقدية المتضخمة الراغبة بدخول توظيفٍ آمنٍ طويل الأجل.

بدايةً، جرى تسويق مشروع “إدارة وتطوير الاستثمار السياحي في الساحل السوري”، وجاء الترويج للمشروع تحت عناوين خصبة تتخطّى محدوديّة فكرة الترفيه السياحي إلى تمكين الشركات السياحيّة المتخصصة من خوض استثمارٍ شهيّ زيّنت له وزارة السياحة السوريّة كثيراً، مقترحةً تقديم الرياضة السياحية مثل تشعّبات الألعاب البحرية بأنواعها، أو تحفيز برامج السير في الطبيعة والتخييم بها. ولا شك بأنّ تلك الاقتراحات الترويجية استندت إلى مخيّلة متقنة لم تستبحها الحرب القائمة، وهذا ما جعل وزارة السياحة تستلهم المزيد من الأفكار المثالية، صعبة التحقق ضمن مفردات الحرب الراهنة، إذ سعت إلى تحفيز السياحة الساحلية ذات الأسعار الرخيصة المناسبة لذوي الدخول المحدودة، مقترحةً أيضاً تحويل العمل التقليدي لمكاتب السياحة من تأمين حجوزات الرحلات الجويّة، والحجوزات الفندقية إلى عمل شركاتٍ سياحية تقدّم برامج متكاملة تحتوي على الحجوزات الفندقية، والرحلات السياحية المتضمّنة أنشطة مثل الغوص، وألعاب التزلّج المائي، والتخييم في الطبيعة، وزيارة المواقع الأثريّة.‏

خسر قطاع السياحة في سوريا أكثر من 330 مليار ليرة خلال أعوام الاقتتال الماضية، وتهجسُ السلطة كثيراً في اشتقاق حلول لتضميد فاجعة الخسارة في هذا القطاع الحيويّ، لكنّ مديرية التخطيط في وزارة السياحة السورية تصرّ وفق تقديراتها الأوليّة، على أنّ تعافي هذا القطاع لن يحدث قبل عام 2030 بأحسن تقدير.

حالياً تلمّع السلطة مشروعها الآخر الخاص بالإدارة المتكاملة لاستثمار الساحل السوري، إذ إنها قطعت شوطاً فيه. وقد يكون قناع الحرب الحالي مناسباً لإجراء خصخصة واسعة لهذا القطاع، سواء في الاستثمار الخاص المباشر، أو في تمكينه من وضع اليد على أراضٍ تعود ملكيتها إلى الدولة، بحجّة تنامي الضرورة لإكمال مخططات المدن السياحيّة المتكاملة على الساحل السوري.

.. فيما رحلة الاستثمار الخاص في السويداء باعتبارها المحافظة الآمنة الثالثة لا تزال فقيرة المكوّنات، إذ إنّ عدد المشاريع الاستثمارية لم يتجاوز 75 مشروعاً بين عامي 1991 و 2016، بقيمة تقريبية متواضعة لا تتجاوز 10.5 مليارات ليرة. لكن 30 مشروعاً استثمارياً من بينها فقط تمَّ تنفيذها فعليّاً، ما جعل توظيف الكتلة الماليّة في هذه المحافظة ينجرف نحو قطاع العقارات بصورةٍ أساسيّة، وهذا صنّع وذْمةً تضخّمية طويلة الأجل يصعب تفادي مفاعيلها الارتكاسية.

بهذا لا يدخل النازحون إلى المناطق الآمنة ضمن تركيب أيٍّ من معادلات التضخم تلك. بالكادِ ينتظر معظمهم تلقّف المعونة الغذائية الدورية لبرنامج الأغذية العالميّة، حين تتذكرهم بها منظمة الهلال الأحمر السوري التابعة للنظام. وهم بذلك ما زالوا يستخلصون فرضيات البقاء من بين أنيابِ واقعٍ ينهشهم بقسوة.

* صحافي من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى