صفحات سوريةمحمد ديبو

سوريا: الوقوف في النقطة الحرجة


محمد ديبو

إنّ المتابع لتطورات الانتفاضة السورية، سيلحظ أنّ سوريا تقف حالياً في نقطة حرجة، بسبب تبلور موقف كل طرف على نحو صريح، وعليه تغدو مغادرة تلك النقطة شبه مستحيلة دون حدوث انكسار حاد في مواقف كل من الأطراف الفاعلة في الداخل السوري، خارجياً وداخلياً. النظام أعلن على نحو كامل وقطعي ذهابه في الخيار الأمني إلى نهاياته، مؤكداً عدم التراجع عنه، بل ساعياً إلى المزيد من الغرق فيه، مع ارتفاع مستوى العنف الذي بات يستهدف التنسيقيات والتجمعات والتيارات المنظمة للتظاهرات بالقتل والاعتقال.

والمعارضة بشقها الأول الداخلي (هيئة التنسيق ــ سميراميس ــ قسم من التنسيقيات ــ تيارات جديدة) أعلنت خيارها بتفكيك النظام الأمني والوصول إلى الدولة المدنية الديموقراطية، دون إعلان شعار إسقاط النظام صراحة، مما يعني ترك الباب مفتوحاً للنظام للعودة إلى الرشد السياسي، لكن دون امتلاك وسيلة لدفعه لتحقيق ذلك. مما يعني أنّ الأمر مرهون بإرادة النظام الذي حدد سبيله بمحاورة نفسه، والذهاب إلى أقصى درجات العنف.

والشق الثاني من المعارضة الداخلية/ الخارجية ( إعلان دمشق ــ قسم من التنسيقيات ــ الإخوان المسلمين ــ ليبراليين) التي مثلها المجلس الوطني السوري، أعلنت مضيها في اتجاه العمل على إسقاط النظام، مع عدم الإجابة عن سؤال إشكالي منذ طرح ذلك الشعار: كيف يسقط، وبأية وسائل؟ وهل القوى الذاتية المتوافرة حتى اللحظة لقوى الانتفاضة على الأرض تسمح بتحقيق ذلك الهدف دون الاستعانة بقوى خارجية؟ وهل موضوع الحماية الدولية الذي يكلف قوات دولية تابعة للأمم المتحدة بحماية المدنيين السوريين، سيلتزم مهمته حماية المدنيين فقط، أم سيحمي المدنيين ويسهم في إسقاط النظام؟

يقودنا ذلك إلى بعض أصوات المعارضة الخارجية التي استجدت التدخل الخارجي العسكري علناً، وذلك ما يرفضه الشارع السوري، بشقيه الموالي والمعارض، ويرى البعض منهم أنّه يرقى إلى مستوى الخيانة الوطنية، مما يعني انقساماً حاداً في الداخل السوري على خلفية الوطنية السورية، يضاف إلى الانقسام الحاد حول النظام.

وقبل المتابعة ثمة إشكالية حقيقية تتمثل في التنسيقيات (التي تمثل بيضة قبان المعارضة) وكيفية تمثيلها، ولمن تميل حقيقة، وخاصة أنّ كلّاً من هيئة التنسيق والمجلس الوطني أعلن أنّه تواصل مع التنسيقيات التي وافقت على ما طرحته في برنامجها، فمن نصدق؟ وخاصة أنّ التنسيقيات غير قادرة حتى اللحظة على التعبير عن نفسها علناً، وأنّها غير موحدة، إضافة إلى عدم معرفة من منها يمثل الشارع حقيقة، ومن منها ملحق بالحراك، إذ إنّ بعض الأحياء الصغيرة تكشف عن وجود أكثر من تنسيقية!

وتحددت المواقف الدولية على نحو أكثر تجذراً. الموقف الدولي الداعم للنظام (إيران، روسيا، الصين…) أكد وقوفه الدائم إلى جانب النظام، إلى درجة إيقاف أي قرار ضده في مجلس الأمن، بل وصل الأمر إلى اتهام «بعض المعارضين بأنّهم إرهابيون»، وفق ما صرح الرئيس الروسي ميدفيدف، وذلك بعدما كان يكتفي بالدعم دون أن يتهجم على المعارضة. ذلك إضافة إلى ما تتداوله بعض التقارير عن أسلحة سلمت أخيراً إلى الجانب السوري من روسيا. إن صح ذلك، فهو يعني أنّ تلك الدول ذاهبة أبعد من دعم النظام.

والموقف الدولي الداعم للانتفاضة، ارتفعت حدته ضد النظام، لتستقر على صيغة إسقاطه بعدما كانت دعوة إلى «قيادته الإصلاح». ولعل الموقف التركي الأخير الذي عبر عنه أردوغان «على الأسد الرحيل عاجلاً أم آجلاً»، يحدد النقطة التي استقر عندها الغرب، والدول الدائرة في فلكه، بما يخص الموقف من النظام السوري. ولعل تأليف المجلس الوطني السوري من إسطنبول، الذي جاء نتيجة تقارب أميركي/ تركي/ إخواني، وإعلانه إسقاط النظام، يدل على المستوى الذي استقرت عنده تلك الدول في طريقة تعاطيها مع الأزمة السورية.

ويتحدد الموقف الدولي حتى اللحظة (وسيتغيّر لاحقاً حتماً) بعدم الذهاب إلى الخيارات العسكرية، في دولة تقع بجوار العراق المفكك، ولبنان المهدد دوماً، وإسرائيل التي وحدها يمثل أمنها، ما يستحق الغرب الوقوف عنده، مكتفياً بالضغط الاقتصادي والعقوبات، ساعياً إلى بقاء الأمور في النقطة الحرجة، لأنّها تضعف كل الأطراف، بانتظار لحظة الحسم التي يقررها بعد أن يكون طرفا المعادلة السورية (السلطة والمعارضة) قد أُرهقا، وبعد أن يكون قد أوجد بدائله التي تلبي مصالحه.

إذ ذاك، تتحدد النقطة الحرجة، بشارع منتفض يموت لأجل حريته بنبل وتضحية عزّ مثيلهما، لكنّه غير قادر على الحسم، وغير قادر على التراجع والخروج من الشارع أيضاً، ومعارضة داخلية (هيئة التنسيق ــ سميراميس) عاجزة، لا تمتلك أية وسيلة ضغط على النظام لإجباره على التفاوض باتجاه تفكيك الدولة الأمنية بالحد الأدنى. في المقابل، أعلنت معارضة المجلس الوطني السوري خيار إسقاط النظام، متضمناً «الحماية الدولية»، دون تحديد ماهيتها، وإن كانت ستستخدم لإسقاط النظام أم لا. فيما الخارج، بشقيه الداعم والرافض، لا يقوى على اتخاذ قرار لحسم الأمور باتجاه أي من الطرفين، ونظام لم يعد بإمكانه التوقف عن خياره الأمني، لأنّه يعني انتحاره.

وبناءً عليه، كيف الخروج من تلك النقطة؟ ومن هو الطرف الذي يستطيع تخطي تلك النقطة؟ علماً أنّ طريقة تخطي تلك النقطة (سواء سلباً أم إيجاباً) ستحدد مستقبل سوريا وربما المنطقة بأسرها.

يراهن البعض على الخيار الاقتصادي، عبر إفلاس الدولة ومنع الموارد عن النظام. قد ينجح هؤلاء في إفلاس الدولة، لكنّ قد لا ينجحون في إفلاس النظام، ولعل مثال النظام العراقي الذي جرت محاصرته عشر سنوات، وبقي صامداً، بينما جاع الشعب العراقي وتهجّر، لا يزال ماثلاً للعيان. وهناك مثال قريب وهو اليمن، الذي تسبق انتفاضته انتفاضتنا السورية، ورغم ذلك لا يزال النظام صامداً. والأهم من هذا وذاك، أنّ النظام يمتلك فعلاً بوابة حدود فتحت، وهي البوابة العراقية، إذ أجبرت إيران حكومة العراق على الوقوف إلى جانب النظام السوري في وقت تستعد فيه أميركا لتغادر العراق، أو تفاوض على بقائها على حساب الانتفاضة السورية!

إذ ذاك، يبدو الرهان على الوضع الاقتصادي للخروج من النقطة الحرجة ضعيفاً على الأقل على المستوى القريب (قد يكون حاسماً على المستوى البعيد).

وبناءً عليه، لا سبيل للخروج من النقطة الحرجة إلا باحتمالين اثنين أحدهما مدمر وذو نتائج كارثية، والآخر وطني وقد يمثل مخرجاً للأزمة السورية.

يتمثل الخيار الأول، الكارثي، بالخيار العسكري الذي يلوّح به الغرب، عبر ضربة عسكرية تستخدم الأراضي التركية بموافقة بعض أركان المعارضة الخارجية، وغض نظر بعض معارضة الداخل. إن حصل ذلك، فستترتب عليه نتائج تمهد للتدخل الخارجي أو الحرب الأهلية، وخاصة مع امتلاك النظام أوراقاً إقليمية متعددة في العراق ولبنان وتركيا وفلسطين.

ويتمثل الخيار الثاني، في أن تتحد المعارضة السورية، أي: الشخصيات الوطنية المستقلة التي شاركت في مؤتمر سميراميس، وهيئة التنسيق الوطنية والمجلس الوطني السوري والتنسيقيات والتيارات والتجمعات التي تألفت أخيراً.

قد تمثل الأطياف مجتمعة رهاناً عريضاً يجمع من حولها الشارع، إن توحدت لصالح برنامج حاسم قد يجبر النظام على التوقف عن حله العسكري، والدخول في عملية تفاوض، لكن يبقى السؤال: كيف تتحد المعارضة كلّها على برنامج عمل؟ وهل تمثل الشارع، إن هي توحدت؟

من يعرف التركيبة الداخلية لمؤتمر سميراميس وهيئة التنسيق وإعلان دمشق والتنسيقيات والتيارات والتجمعات والمجلس الوطني المعارض، وأفعال كلّ منها على الأرض، يدرك أنّ الكثير من شباب الانتفاضة شاركوا في تلك التشكيلات بطرق مختلفة، مما يعني أنّ هناك إمكاناً لتوحد تلك الفصائل المعارضة على برنامج عمل موحد، يحقق خيارات الشارع المنتفض. وهنا، يتفرع سؤال مهم: كيف تحقق المعارضة أهداف الشارع على نحو مسؤول؟

حتى الآن، بلورت المعارضة السورية رؤيتين لحل الأزمة السورية، الأولى قدمها مؤتمر سميراميس وهيئة التنسيق، وتتمثل في تفكيك النظام الأمني، دون إعلان إسقاط النظام صراحة، والثانية مثلها المجلس الوطني السوري الذي أعلن إسقاط النظام، وطلب الحماية الدولية.

الخلاف بين الطرفين ليس حاداً، فهما متفقان، في الجوهر، على إسقاط النظام، لكن تختلف الآلية، إضافة إلى رفض معارضة سميراميس وهيئة التنسيق أي إشارة إلى التدخل الخارجي أو الحماية الدولية، فيما يرى المجلس الوطني المعارض أنّ ذلك يعطي النظام قوّة هو بحاجة إليها، دون أن يعني هذا استخدامها بالضرورة.

لعل توحد المعارضة، على برنامج عمل يدمج الرؤيتين دون التخلي عن أيٍّ منهما، يمثل مخرجاً، لكن كيف؟

يمكن طرح برنامج من خيارين، يرفد أحدهما الآخر: أحدهما يعطي النظام فرصة أخيرة وحاسمة لإيقاف حله الأمني والدخول في عملية تفاوض لا سقف لها ولا محرمات، على قاعدة تفكيك النظام ومحاسبة كل من تورط في سفك الدماء، كائناً من كان، وقبول المعارضة شريكاً أساسياً وفق رؤيتها هي، وضمان أمن الجميع وعدم اعتقالهم، مهما كانت برامجهم السياسية. ويرتبط تحقيق ذلك بمدة زمنية محددة، وذلك طبعاً بعد إخراج الأمن والجيش من الشوارع وإطلاق سراح كافة السجناء السياسيين. والخيار الثاني، وهو مرتبط بالأول ارتباطاً وثيقاً، يتمثل بإعلان المعارضة أنّ النظام إن لم يستجب للتفاوض خلال مدة محددة، فستذهب كلها إلى إعلان إسقاط النظام الآن وراهناً، على نحو صريح وعملي.

وعلى الخيارين أن يترافقا مع استمرار التظاهر الذي يجب ألا يوقف تحت أي ظرف كان، لأنّه ورقة الضغط الوحيدة على نظام لن يتخلى عن شيء إلا مجبراً، كما أثبتت تجارب الواقع.

تتمثل أهمية الخيار الأول حين تطرحه المعارضة، مترافقاً مع خيارها الثاني، في مد اليد لوقف حمام الدم (الذي يتحمل النظام وحده المسؤولية الكاملة عنه) ومخاطبة الشارع الموالي الذي يتهم المعارضة بأنّها لم تقدم أي أفق أو حل، والأهم إثبات التفوق الأخلاقي على النظام الذي أظهر حتى اللحظة أنّه يقامر بالوطن بمن فيه.

وتتمثل أهمية الخيار الثاني، في طمأنة الشارع المنتفض إلى أنّ المعارضة حال منحها ثقته، لم تتخل عن شعاره الآثر «إسقاط النظام»، لكن يختلف الأمر في كيفية تطبيقه، فإن جرى التطبيق عن طريق التفاوض والسياسة كان، وإلا فالحسم عن طريق الشارع. وحينها تكون الكرة في ملعب النظام، سواء قبل مجبراً على التفاوض أو عاند ماضياً إلى حتفه المحقق.

* شاعر وكاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى