صفحات المستقبلمحمد دحنون

سوريا اليوم: هنا دمشق!

محمد دحنون

تهيئ المدينة نفسها للموت. تتحضّر لتأخذ حصتها من الدمار المعمّم. ستشارك المدينة في حفل الجنون الذي تحياه “سوريا الأسد” منذ أقلّ من سنتين. تستعدّ دمشق للخراب؛ ما بقي منها على الأقل.

ليست كغيرها لدى البعض. إنّها دمشق. ليست كغيرها، أيضاً، لدى بعض “آخر”. ولكن، كلٌّ على طريقته!

“من” هي دمشق؟!

لا تُسأل المدينة عن هويّتها إلاّ حينما تكون مدينة حقّاً، قولاً وفعلاً. و”دمشق ـ الأسد” ليست مدينة. هي، خلال، وبعد، أربعين سنة من تمّلك البلد وتحويله مزرعة العائلة لا شيء أكثر من قريّة هائلة المساحة، وعدد القاطنين. هي أيضاً، القرية الهائلة التي تختزن في داخلها خوفاً بحجم بلد. وهي: القريّة الهائلة التي أُجبر الناس فيها على دوس كرامات بعضهم بعضا، لأنّه ثمّة “كرامة أولى” قد ديست؛ وطئها “البوط” العسكري.

لم يحبّ الطاغيّة دمشق يوماً. المدينة تخيفه. نال رضا أعيانها. ثمّ خنقها.

كانت المدينة ـ القريّة تعبق بأرواح المستنقع الذي سميّ “سوريا الأسد”. يتكثّف فيها كل من الجمود والوجوم والألم التي شكّلت طويلاً ملامح أيّ سوريّ لحظة شروده. لا شيء يغري الثائر السوري الذي سحقه التهميش والفقر والقمع بالحزن عليها وعلى مصيرها القادم. ثمّة مَطهر ملحمي تحياه تلك البقعة الجغرافيّة التي يرسم أطفال بأقلام الرصاص خطوطاً هي حدودها دون أن يعلموا يوماً أنّهم يرسمون “وطن الصدفة”. بالنسبة للثائر: على دمشق أن تكابد ما كابدته القرى والبلدات و”المدن” في هذا “الوطن الصدفة” والمفتوح دوماً على احتمالات الصدفة!

لا يثير الاحتمال المرجّح رعباً شديداً في النفس إلاّ بقدر ما يمكن لدمشق أن تكون خزانا لذكريات لا تنتهي: ذكريات خاصّة. حميمة وشخصيّة. إذ، في الأصل، لم تسمح سوريا الأسد للسوريين بتشكيل ذاكرة عامة وحقيقيّة وحيّة عن بلدهم. بدأ الزمان، بحسب الأدبيات البعثيّة ـ المخابراتيّة في السادس عشر من شهر تشرين الثاني العام 1970. قبل ذلك، شُبّه الأمر للسوريين بخطأ قدري هائل!

سيدمر الطاغيّة الريفيّ دمشق. روح الأب ترفرف في المكان حتماً. لا يتفوق الطفل على أباه. يتبع أمنياته وحسب. ثمّة شيء تاريخي يتكرر هنا: العجز عن التماهي وعن التبني الأصيل لقيم المكان تجعل من الطغاة أعداء أزليين للمدينة، وفي لحظة الهيبة والقوّة وشهوة الدمار أو/ و في لحظة الانكسار والانهيار التي تلي ما سبق، يسعى هؤلاء إلى تقيؤ الحقد والعفن والساديّة التي تحفل بها أرواحهم على ما يظنون أنّه المكان الذي نبذهم يوماً… وأبداً. يشوّهون وجه المكان بأظافرههم. يضربون في المناطق الأكثر رقة وهشاشة من جسده. يزيلون هذا “التناقض التاريخي” بالقضاء على حديّه.. هكذا يظنون!

ليس للثائر السوريّ، ابن الأحياء التي لا يزيد عرض شوارعها عن المترين، أو ابن الأرياف المنسيّة، أن ينشغل بأمر كاحتمال الدمار الذي يتربص بعاصمة بلده. الثائر السوري هذا مشغول بإزالة أصل كلّ فساد في البلد. من حقّه ألاّ يشغل نفسه بالقريّة ـ المدينة التي لم تشغل نفسها به. التي لم تحنو عليه يوما. لم يكن لدمشق يدٌ في الأمر؟ ربما!

… لكن، بعد كلّ شيء. وقبله أيضاً. حين تُعزل دمشق عن العالم، ثمّة فراغاً يتلبّس الروح. لا يتنبّه المرء إلى مصدره. قد تفيد المسافة ـ الغربة في تبريره لكنها لا تكفي. دمشق معزولة عن العالم، يصبح هذا مكاناً أضيق وأخفّ وزناً ويزداد فراغ الروح.

 دمشق أيضاً، تلك التي تتهيّأ لعبور المطهر السوريّ، كانت مطهراً لكل من مرّ بها. دمشق تلك، بكل قبحها وقسوتها وعفنها، مثّلت اختباراً للجدارة في أن يكون المرء على قيد الحياة بأتمّ معاني الكلمة، وأكثرها إيجازاً: علّمت دمشق تلك، من أراد أن يتعلّم، كيف له أن يحفظ نفسه من الظلام المتمادي في الخارج، علّمت دمشق تلك، من أراد أن يتعلّم، كيف له أن يحفظ بعض النور الذي في داخله.

دمشق، بهذا المعنى فحسب، جمال سوريا الأبدي..

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى