صفحات العالم

سوريا بداية النهاية لإيران/ وجيه قانصو

 

 

لم تقتصر آثار انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي على وضعه في حالة موت سريري، بحسب تصريح وزير الخارجية الإيراني، بل امتدت إلى تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة وتعديل منطق توزيع القوة ودوائر النفوذ بين القوى المتنافسة والمتصارعة فيها. الأمر الذي سيفرض على القوى الفاعلة تعديلاً أساسياً في صناعة السياسات واعتماد استراتيجية مواجهة مختلفة عن السابق

عاشت إيران في زمن حكم أوباما عصرها الذهبي تمثل في توسع بل تضخم نفوذها في المنطقة. وهو توسع حصل تحت غطاء الاتفاق النووي، الذي فصل بين هذا الاتفاق وسياسات إيران وتسلحها الصاروخي بعيد المدى وتوغلها العميق والنافذ داخل بنى الكيانات السياسية في أربع دول على الأقل: لبنان، العراق، سوريا، واليمن.  هو فصل أراد منه أوباما إحداث تقارب ثقافي بين الغرب وإيران والتودد إلى الشباب الإيراني الميال إلى نمط الحياة الغربية، وتشجيع خط الاعتدال داخل إيران لترجيح كفة الإصلاحيين في إدارة الحياة العامة فيها على حساب المتشددين. وهي رهانات مستندة إلى التباس شديد في فهم طبيعة النظام الإيراني وحقيقة هرميته ومرتكزات القوة والنفوذ فيه.  هو التباس أقنع أوباما بوجود تعبير حر وتعددية سياسية فعلية داخل إيران.

في حين فهمت إيران سياسة أوباما على أنها هدنة سياسية وعسكرية غير محدودة الأمد، أي فسحة حرية سياسية وعسكرية مدعمة بيسر اقتصادي مُنِحت لها مقابل تخليها عن نسبة تخصيب معينة لليورانيوم. وهي حرية ترجمتها حراكاً عسكرياً وسياسياً واسعين، سمحا لها ملء الفراغات الاستراتيجية التي أحدثها سوء أداء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في معالجة أزمات المنطقة. وهو أداء ارتكز على احتواء الأزمات وحصر دائرة انتشارها لا تقديم حلول جذرية وجدية وصارمة لها.  أي قاربت الأزمات من خارجها لا من داخلها، وبحسب ما تفترضه أولويات أمنها القومي والديمغرافي. ما جعلها تغفل تفاصيل أحداث المنطقة ولا تبالي بالانتهاكات الإنسانية وتنسحب من حمأة التوترات الداخلية، لتترك أرضا مفتوحة سياسيا وأمنياً لإيران في كل من سوريا واليمن والعراق وبالطبع لبنان.

إيران بالمقابل، لا تعمل على تلوين أي نظام بصبغتها الأيديولوجية بحكم استحالة ذلك، ولا يعنيها تقديم حلول للأزمات القائمة، بقدر ما يهمها تأسيس مرتكزات قوة ونفوذ وأرضية ولاء عقائدي وسياسي خالص لها، تكون منفصلة ومستقلة عن أي كيان سياسي قائم.  ما يعني أن إطالة أمد الأزمات يمنحها المزيد من الوقت اللازم لتثبيت دعائم قوة يصعب تجاوزها أو التغلب عليها، وتكون بمثابة قوة أمر واقع تفرض على النظام أو السلطة القائمة التكيف معها والتعامل مع وجودها كمعطى موضوعي ونهائي.

النهاية المتوقعة للاتفاق النووي، وعودة الحصار الاقتصادي الخانق داخل إيران، واعادة خيار المواجهة العسكرية ضد إيران بجدية إلى الواجهة، وربط الاتفاق النووي بوضع المنطقة الاستراتيجي واستقرارها المجتمعي وموازين القوى فيها، وفق ما جاء في الشروط الجديدة التي أعلنها وزير الخارجية الأمريكي للتوصل إلى اتفاق جديد مع إيران..كل ذلك غيَّر أرضية المواجهة وقواعد التنافس بين إيران والقوى الحليفة لها من جهة، وبين الولايات المتحدة والدول الحليفة لها من جهة أخرى.  هو تغير بدأ يتخذ شكل حضور أمريكي أشد كثافة وشراسة، وأكثر تورطاً بتفاصيل سياسات المنطقة ومجريات الأنظمة فيها ومراقبة دقيقة لعملياتها الاقتصادية والمالية، والتصدي المباشر والتفصيلي لحلول الأزمتين السورية واليمنية. يقابل الاندفاع الإمريكي هذا، حذرٌ وترقب وحتى تردد إيراني في تقدير الخطوة التالية، والاستعانة بالوقت لاستجلاء حقيقة وجدية وفعالية التصعيد الأمريكي ضدها، وإيجاد فسحة أمان اقتصادي ودبلوماسي وعسكري توازن به التهديد الأمريكي.

مؤشرات عديدة تدل على أن المواجهة الامريكية الإيرانية جدية، وأنها انتقلت إلى مستوى متقدم أكثر سعة وتشعباً وتعقيداً.  من هذه المؤشرات:

-انخراط دول الخليج بكامل إمكاناتها في التصعيد الأمريكي الأخير.

-مسعى أمريكي لبناء حلف دولي يشارك في العقوبات الأقسى في التاريخ ضد إيران بحسب تعبير وزير الخارجية الأمريكي.

-مسارعة إسرائيل إلى استثمار التصعيد الأمريكي بتوجيه ضربة نوعية ضد الوجود الإيراني في سوريا لغرض التحكم في خريطة نوزعه وانتشاره، والحؤول دون وصوله إلى مستوى يناظر وضعية حزب الله في لبنان،  إضافة إلى إظهار تفوق آلة إسرائيل العسكرية لنقض ادعاء توازن الرعب الذي عمدت إيران إلى تثبيته أو تعميمه داخل المجال السوري.

-إبلاغ الرئيس بوتين بشار الأسد بضرورة تحريك المسار السياسي وخروج القوات الأجنبية من سوريا، وهو تصريح يدل ضمناً  على عدم ارتياح روسي من النشاط الإيراني داخل سوريا وتحويلها جبهة مواجهة ضد إسرائيل أو نقطة ارتكار ممانعة تابعة لها، وعلى قابلية روسية بعقد صفقات تسوية مع الولايات المتحدة تمنح روسيا وصاية نسبية على تشكيلة النظام السوري مقابل رفع الغطاء عن حليفه الإيراني.

-إدراج الولايات المتحدة الصفَّ الأول من قيادات حزب الله في لبنان على لائحة الإرهاب لغرض إلغاء التمييز بين تنظيمه السياسي وتنظيمه العسكري، ولقطع الطريق على استثمار حزب الله إنجازه الانتخابي داخل تشكيلة الحكومة اللبنانية القادمة.

-توزع نتائج الانتخابات العراقية بين لوائح متعددة حال دون قدرة إيران على الإمساك بالقرار الشيعي العراقي أو قرار السلطة العراقية.

هي جميعها مؤشرات لا تحمل دلالات حاسمة، لكنها تحدد وجهة جديدة ودرجة خطورة أكبر ونطاق مواجهة أوسع من محليات المنطقة ومحدوديتها.  من المؤكد أن إيران لن تُسلِّم بسهولة للوضع الجديد، ولن تتخلى عن منجزاتها التاريخية ومرتكزات قوتها في المنطقة، إلا أن نبرة التصعيد الأمريكي الجديد وإتساع مداه، يجعل عدة إيران التعبوية أو وسائل مواجهتها السابقة والحالية، بمن فيهم وكلائها المحليون، فاقدة الفعالية، ويجعل وجودها الواثق في المنطقة خصوصاً في سوريا مُزعزعَاً ومُهدَّداً.  ذلك أن صمود إيران في المرحلة الجديدة يستدعي بناء جبهة دولية واسعة داعمة لها تخفف عنها عبء الضغط السياسي والحصار الاقتصادي القادمين. وهي جبهة ترى جميع دول العالم، بمن فيها روسيا والصين والهند، أن الدخول فيها مخاطرة كبيرة وغير ذات جدوى لها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى