صفحات العالم

سوريا برسم التلزيم

 

نصري الصايغ

أُقفلت أبواب الحل السياسي في سوريا. الأبواب، في الأساس، لم تكن مفتوحة. أي سراب عن حل، تمت تصفيته. أي محاولة لكتابة جملة أولى للتسوية، تمّ شطبها. سوريا، حتى بعد عامين من «التسونامي» الدامي، ليست في وارد الانحسار. فالدم يستسقي الدم. الحل العسكري صار هو الحل الشرعي والوحيد للطرفين. الحل السياسي الذي تمت تصفيته، لم يكن جديراً بالحياة. النظام يريد حلا سياسياً بعد هزيمة المعارضة المسلحة، والمعارضة تريد حلاً سياسياً بعد إطاحة رأس النظام والنظام، وربما إطاحة الدولة والمجتمع.

لا معجزة قريباً. النظام باق والمعارضة مستمرة، وسوريا تدفع الأثمان، ولا تقبض غير الركام ولا تعترف بغير الخراب. والعالم توقف عن عد القتلى، واكتفى بتسجيل أرقام المجازر.

يجدر في هذه الأهوال والأحوال طرح أسئلة لا بد منها:

ماذا يحتاج النظام في سوريا ليحسم المعركة؟! ما الوقت الذي يستنزفه لتحقيق هذا المستحيل؟!

سيحتاج النظام إلى مزيد من القوة العسكرية، وسيتوافر له ذلك. سيحتاج إلى إعادة هيكلية قواته الميدانية ورفدها بميليشيات «رسمية»، وسيكون له ذلك، بدعم الخبراء الإقليميين والدوليين. سيحتاج إلى دعم مالي مكثّف ومستدام، وسيكون ذلك متوافراً، فلن يبخل الحلفاء في ملء محفظة النظام. وسيحتاج إلى حماية دولية، تؤمن له تغطية ومشروعية لحملاته العسكرية، وسيكون ذلك ميسوراً في المحافل الدولية، وسيخطط وينفذ عمليات عسكرية، جوية وبرية، لاستعادة أراض ومواقع وبلدات وقرى وأرياف وشوارع وأحياء ومناطق وبعض المدن التي خسرها مراراً واستعاد بعضها مراراً، وسيكون له ذلك. سيداوم على الكر والفر، القتل والنزف، إلى ما شاء من وقت.

لن يحتاج النظام إلى الجامعة العربية التي طلّقته، ولا إلى أوروبا التي شطبها فشطبته، ولا إلى أي نصيحة من صديق صدوق أو صديق خائف. يكفيه أنه ينام دولياً على مخدة الروس، وينهض إقليميا على آيات الله الإيرانية. وهذان حليفان نهائيان، مهما تكلّفت سوريا. سيتوافر للنظام دائماً، إذا خسر معركة أو ربح جولة، كل ما هو ضروري ليستمر، حتى الرمق الأخير، والطلقة الأخيرة، المؤجل بلوغها، لدوام الدعم.

لقد برهن النظام أنه قادر على الصمود إلى أجل غير مسمّى، ولديه متسع من الوقت الذي لا ينفد. فمن يحرك عقارب الزمن السوري من الخارج، لن يجعلها تتوقف، قبل انتصاف الحل العسكري، في رابع المستحيلات.

أسئلة أخرى لا بد منها:

ماذا تحتاج المعارضة المسلّحة، بأطيافها المتعددة، وفروعها المختلفة، مدنياً وعسكرياً، وإسلاميتها المنتشرة، إخواناً وسلفيات و«نصرة» و«قاعدة»، لتحسم المعركة عسكرياً، وما الوقت اللازم لتحقيق «انتصارها» الباهظ؟

ستحتاج المعارضة إلى مزيد من التسلح، وسيتوافر لها ذلك، وإن بصعوبة. وستحتاج إلى دعم لوجستي، وهو متوافر وسيتوافر أكثر. وهي بحاجة إلى دعم مالي وفير، لسد حاجات السكان وحاجات البنادق، وسيكون لها ذلك. لن تبخل دول النفط والغاز الخليجي: قطر تستبد من أجل المزيد من الضخ المالي، والسعودية تنافس قطر، لكنها لا تبزّها دعماً. أوروبا مستعدة إنما… أميركا كذلك، ولكن… سيكون للمعارضة ما تشاء، كي تستمر في المعركة، من أجل إسقاط النظام. وهذا، حتى الآن، من سابع المستحيلات، إلا إذا…

«أصدقاء سوريا» مع المعارضة: أصبح لديها «مجلس وطني» و«ائتلاف» ورئيس حكومة، وقادة ميدانيون، وأحلاف مع «القاعدة» من جهة، ومع القواعد العسكرية الأميركية في تركيا والخليج. وهؤلاء مستعدون لاستنزاف الوقت إلى ما لا نهاية، كي تحسم المعارضة معركتها، وتتحول سوريا بعدها إلى أفغانستان «طالبان»، وصومال «الشباب».

الحل العسكري المستحيل ليس أمامه إلا نتيجة واحدة: تدمير سوريا، وتأهيل ركامها لخوض حروب أهلية وطائفية ومذهبية، تفرغ المدن من سكانها والأرياف من بلداتها والمناطق من تعددها.

«دمشق الحرائق» على الأبواب. سبقتها حمص. إنها تشهد منذ شهور حريقها المندلع بنار لا تهدأ. حلب تفوقت بحرائقها. ما بقي منها يبكي على ما حُذف منها بالنار والصواريخ. ماذا يقال عن درعا وداريا والقصير ودير الزور ومنبج ومسقط رأس أبي العلاء المعري… فلا رأس بعد اليوم في المدن السورية.

إلهامات طأطأت جباهها أمام جلاوزة العسكر وجزمات الميليشيات وأحذية قطاع الطرق ومافيات الأمر الواقع، وأمام أصحاب اللحى المخيفة.

سوريا التي عرفناها «خلصت». وسوريا التي سنتعرف عليها، بعد إنجاز الحل العسكري مهماته من قبل الطرفين، سنكتشف أنها لا تشبه أي دولة وأي مجتمع وأي طائفة وأي مذهب. ستكون موبوءة، كاسدة، معلّقة على ركامها، شيئاً من سدوم وعمورة، التي حلّت عليها اللعنة.

غريب ذلك؟ أليس كذلك؟

لا. فأوجه الشبه بين «النظام» و«المعارضة» متوافرة ومتطابقة أحيانا. الاثنان استئصاليان. الاثنان متطرفان وأصوليان. الاثنان والغان في الدم السوري. الاثنان لا قوة لهما كافية لولا الدعم الخارجي. للأول إيران وروسيا والصين، والثانية قطر العظمى والسعودية الصغرى وأوروبا وأميركا وخيالات الصحراء، في الجامعة العربية.

الاثنان يغرفان من الطائفية والمذهبية ويفلحان. السنّة ضد العلويين والعكس صحيح، ولا يؤخذ عادة بالأرقام التي تحصي المعتدلين، الحروب تحذف المعتدلين من الحساب.

يتشابهان في أن لا قضية لهما. ما قيل في البداية عن الحرية والديموقراطية والكرامة والخبز، كان صحيحاً جداً، ثم صار أضغاث أحلام. لقد قُتلت الحرية واغتيلت الديموقراطية وأهينت الكرامة… أما الخبز، فيسأل عنه أربعة ملايين نازح سوري في الداخل، ومليوني نازح إلى الخارج… سوريا «الثورة» باتت بلا ثورة. الإسلاميون تكفلوا بذبحها، والنظام لم يوفر أعناقها.

الكلام الذي ساقه النظام عن الممانعة والمقاومة، انتهى. لا قدرة لإسرائيل ومن معها في العالم، من تدمير ما دمرته آلة النظام وعسكرة المقاومة. لا طاقة لإسرائيل على مثل هذا التدمير.

وعندما تُغتال القضايا، تصير الحروب عبثية.

عبث كل ما سيأتي. الحسم مقتلة كبرى. وسوريا لم تعد للسوريين إلا بدمائهم. ابحثوا عنها، فلن تجدوها إلا في إضبارات الدول. وإذا كان التفكير بالحلول السياسية لم يعد مجدياً، فإن الدول المساهمة بتدمير سوريا، تعد العدّة لإعمار سوريا الخراب، بأكثر من 70 مليار دولار؟

على من سترسو سوريا في الغد البعيد جداً؟ سوريا ستكون برسم التلزيم. إنه لأمر يثير البكاء بشراسة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى