صفحات العالم

سوريا بلون الدم

عبد الحليم قنديل

أراد النظام السوري الدموي أن يطـــفئ نار الثورة السلمية، وأن يحولها إلى حرب أهلية، وأن يحـــرق الأخضر واليابس، وأن يهلك الحرث والنسل، وأن يحول البلد الجميـــل إلى أطلال، وقد فعلها، وصبغ وجــــه سوريا الحبيبة بلون الدم، وساعدته في ذلك جمـــاعات انتحلت صفة الانتساب إلى الثورة، وأهدرت الطابع الأخلاقي المتفوق للثورة السلمية، وبادلت عصـــابة الأسد تدمـــيرا بتدميــــر، وعلى طريقة شعار الشبيحة ‘بشار الأسد أو ندمر البلد’.

في بداية الثورة السلمية لم تكن قطر ولا السعودية ولا تركيا حاضرة في الموضوع، ولا المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وعندما حضر الشياطين ذهبت الملائكة، وبدا أن تدويل الصراع يهدم قضية الثورة، ويحولها من ثورة في سوريا إلى ثورة على سوريا، خاصــــة أن العصابة الحاكمة في دمشق تستند أيضا إلى دعم دولي سياسي وعسكري، وتبدو إيران وروسيا ـ بالذات ـ كأنها تحارب الآخرين على جبهة سوريا، وتدير معهم حروبا بالوكالة، يذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء الســوريين، وتدمر مقدرات ومصالح وممتلكات الشعب السوري، ويهيـــــم الملايين من أبنائه مشردين في بلادهم، أو لاجئين بمئات الألـــوف إلى بلاد الآخرين، وحيث لا يلقون سوى العــــنت والبؤس وإهدار الآدمية، وإلى حد إصدار فـــتاوى وضيعة تتـــعامل مع النساء والبنات الســوريات كسبايا، وتوصي بالمسارعة إلى شراءهن في صورة عقود زواج مشكوك في دوافعها ونياتها .

وربما لايصح لأحد ذي ضمير أن ينكر المسؤولية الأساسية عما جرى ويجري، فنظام بشار هو القاتل والجزار، وهو العنوان الموثوق لعذاب الشعب السوري، وهو الذي يريد البقاء بغير شرعية، وهو الذي سعى لإغراق سوريا في بحور الدم، وعلى ظن منه أن الحرب هي بديل الثورة، وأن تفجير السعار الطائفي هو الحل، وأن حرب العلويين ضد السنة هي التي تنقذه، وكشف بذلك عن واحد من أقبح وجوهه، ففضلا عن تسلطيته ودمويته ولصوصيته، فهو نظام عائلي طائفي بامتياز، يتصور أنه ينتصر لطائفته العلوية، وهي لا تمثل غير نسبة قليلة من التكوين السوري، ولا مجال لمقارنتها بتعداد السنة الذين يشكلون غالبية التكوين السوري، وهم العمود الفقري لمدن سوريا الكبرى وغالب بلداتها وقراها، والحاضنة الطبيعية التاريخية للمسيحيين والدروز، وحتى للطائفة العلوية الكريمة نفسها، والتي بدت في حالة تململ زائد خلال الفترة الأخيرة، وبدت إشارات المعارضة فيها ظاهرة لعائلة الأسد، فدموية النظام المجنون، وحربه الوحشية، وحقده الأسود ضد غالبية الشعب السوري، واستخدامه لآلة الحرب الجهنمية، والإفناء والقتل بلا تمييز، كل ذلك يدفع العلويين إلى الخوف على مصيرهم، ويقودهم إلى المأزق، فإما أن يحاربوا مع عائلة الأسد حتى آخر علوي، أو أن يقرروا التوقف عن القتل، والمشاركة مع كل فئات الشعب السوري في إنهاء حكم عصابة الأسد، والتي تخوض حربا عبثية بلا أمل أكيد في النصر .

ومع تحميل نظام بشار المسؤولية الأساسية عن تدمير سوريا، فربما لايصح الالتفات عن أدوار لجماعات أخرى، لا تهمها قضية الثورة في سوريا، ولا تحرير الشعب السوري من ربقة الطغيان، ولا اكتساب حياة حرة وديمقراطية، يقرر فيها الشعب السوري لنفسه، ويحمي وحدة سوريا مهد العروبة الحديثة، ويقيم المساواة بين الجميع، وينتصر لحكم القانون والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، وأولوية الانتماء الوطني على ماعداه من تفريعات، وخلافا لأشواق الثورة التي بدأت عفية وسلمية، فقد ظهرت على السطح جماعات شتى حملت السلاح، بعضها بالفعل ينتمي لسيرة الثورة السورية، أو من جماعات منشقة بالسلاح احتجاجا ورفضا لشناعات الجيش الرسمي، وقد تحول هؤلاء ـ تحت ضغط دموية النظام ـ إلى حمل السلاح، وكان الهدف في البداية مشروعا، وهو الدفاع عن حرية التظاهر وسلامة المتظاهرين، وضمان اتصال خط الثورة السلمية، والذي حافظت عليه الثورة السورية في شهورها التسعة الأولى، ثم أراد النظام الخلاص من هواجس هلاكه الوشيك باللجوء إلى البطش الدامي، وتحويل الثورة إلى حرب أهلية، وإشعال الفتنة الطائفية المسلحة، وهو ما أوجد بيئة خصبة لانتعاش أدوار لأطراف من ماركة جماعة القاعدة وأخواتها، لا تريد الديمقراطية، ولا تريد الحرية، بل تريد التدمير من أجل التدمير، وتحت شعارات مموهة عن نصرة الإسلام، بينما تبدو سيرة هذه الجماعات غامضة ولا تزال، ليس في سوريا وحدها، بل في كل مكان حلت فيه، وصحبت معها خراب عقلها وعملها، فضلا عن ارتباطات مريبة بأجهزة مخابرات لدول كبرى وصغرى، تؤدى دورا كبيرا في تنفيذ خطة ‘فرق تسد’ الاستعمارية القديمة الجديدة، ولا تعنيها سلامة الوطن السوري، ولا وحدته، بل تجد في الخراب وطنها المفضل، وفي الأطلال أوكارها المثلى، وفي التحول إلى حرب لا تنتهي غايتها العليا، وهكذا التقت جماعات التدمير في الرغبة الدموية مع عصابة الأسد، وخدمت خطته الخبيثة، وهي تدري أولا تدري، فهي توجه عنفها الأعمى تجاه العلويين والمسيحيين بالذات، تقتل وتشرد على الهوية الطائفية، تماما كالنظام العائلي الطائفي الذي يروي عطشه بشرب دماء السوريين من الأغلبية السنية .

ويكاد لا يوجد شك في أن النظام الدموي ذاهب إلى نهايته الأكيدة، فقد أشعلها حربا لاتبقي ولا تذر، وليس بوسعه أن يحقق النصر في النهاية، ولا أن يضمن البقاء طويلا، وهو يحرق البلد ما دام لا فرصة لبقاء الأسد، لكن تحويل الثورة إلى حرب أهلية لن تنتهي مضاعفاته السيئة بسهولة، والخشية كل الخشية من دواعي الانتقام، ومن تأثيرها السلبي على قضية الثورة بعد إفناء نظام الأسد، فسوف تشكل جماعات الإرهاب خطرا داهما على مسيرة التحول الديمقراطي، وتسعى لتمزيق سوريا إلى أشلاء، وتفكيكها خدمة لإسرائيل، وهذا ما قد يصح أن ينتبه إليه الثوريون الحقيقيون، فالثورة في سوريا بشير نعمة، لكن الثورة على سوريا هي الجحيم بعينه .

كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى