صفحات سوريةعمر قدور

سوريا بوصفها مسلسلاً رمضانياً/ عمر قدور

 

 

في حين يتكاثر الحديث عن سيناريوهات الحل في سوريا لا يوجد في الوقائع على الأرض ما يسند فرضية الاقتراب من الحل. كنا في محطات سابقة قد شهدنا تحركات دبلوماسية دولية تنتعش عندما يكون النظام آيلاً للسقوط، ثم تختفي الحركة ويلوذ أصحابها بالصمت عندما يتمكن أصحابها من فرملة الدول الداعمة للمعارضة، وعندما يصل الدعم الحليف إلى النظام بالقدر الكافي ليصمد جولة أخرى. ما كان يحدث في الخفاء من قبل صار يحدث وكأنه اكتسب شرعية أخلاقية. فعندما لم يكن هناك داعش، أو جبهة النصرة، بهذه القوة، كانت الذريعة الخجولة عدم وجود بديل للأسد. مع وجود داعش وأشباهه الذين انتعشوا بسبب منع الحسم أضحت النتيجة هي الذريعة، أي صارت هي المقدمة التي تُبنى عليها بقية الافتراضات. وقد لا يكون بعيداً اليوم الذي يتلاعب فيه الحماة الدوليون بالوقائع فيصوّرون إسقاط الأسد بمثابة تهديد لضحاياه.

ما حصل بعد تقدم جيش الفتح في الشمال وإعلان معركة “عاصفة الجنوب” من قبل ثوار درعا، ومن ثم فرملة المقاتلين شمالاً وجنوباً، خطوة على ذلك الاتجاه، فالتسريبات تشير إلى ضغط الإدارة الأميركية على الدول الداعمة للفصائل المعارضة تحت ذريعة الخوف من انهيار مفاجئ للنظام. ولم تمضِ سوى أيام قليلة على فرملة “عاصفة الجنوب” بعد توقف معارك الشمال على مشارف الساحل حتى كانت ميليشيا “حزب الله” وقوات النظام قد فتحت معركة إبادة لمدينة الزبداني، المعركة التي لم تكن ممكنة لو أن القوات المهاجمة تخشى من تجدد الضغط على الجبهات الأخرى. التفسير المتسرع يقول بأن النظام وحلفاءه يريدون نصراً سهلاً بأي ثمن للتغطية على الهزائم الأخيرة، لكن التفسير الأقرب إلى المنطق هو أن الرغبة في إحراز هذا الانتصار يتلاقى فيها النظام مع حلفائه الإقليميين والدوليين، وفي مقدمهم الإدارة الأميركية التي توزع الخطوط الحمراء في سوريا تحت غطاء مخادع من اللامبالاة.

لقد حولت الإدارة الأميركية المأساة السورية إلى ما يشبه مسلسلاً رمضانياً بأجزاء لا تنتهي، تماماً على شاكلة الدراما السورية المدعومة من النظام. وعلى شاكلة تلك الدراما جرى لمرات عديدة تنميط الصراع في سوريا بخلاف ما هو عليه في الواقع، وجرى توزيع الأدوار على السوريين ليتقمصوها، شاؤوا أم أبوا! أيضاً على شاكلة المسلسلات المضجرة تتم إعادة الوضع، كلما لاحت بوادر تقدم درامية، إلى النقطة صفر للصراع مع إدخال شخصيات وممثلين جدد يعودون بها إلى الوراء. وهكذا يستتب الأمر للمنتجين كي يعدّوا لجزء جديد من المسلسل يتابع الدجل السابق. وإذا لم يكن للإدارة الأميركية أي دور أصلاً في اندلاع الثورة السورية فهي على الأقل منذ ثلاث سنوات باشرت الانخراط الفعال في إدارة الوضع عن بعد، وبدأت التحكم في الملف السوري من دون أن تستثمر شيئاً من رصيدها، باستثناء الرصيد الأخلاقي الذي لم تمانع في خسارته يوماً. قدرة الإدارة الأميركية على التأثير تتعلق أساساً بقدرتها على الضغط على الحلفاء الإقليميين التواقين إلى التخلص من الأسد، وقد أثبتت فعالية كبيرة في لجمهم، والاحتيال عليهم أحياناً بزعم السعي إلى حل سياسي، وحين تطلب الأمر إرهابهم لم تتورع حتى عن تهديدهم بتركهم للخطر الداعشي والإيراني كأنها هي من يحمي المنطقة من الخطرين!

الإدارة الأميركية ليست مستعجلة أي حل يزيح الأسد أو يبقيه، وقد لا يكون لديها مانع في النهاية إزاء أيّ من الاحتمالين. الأهم أن الوضع الحالي هو الأنسب للاستثمار الرخيص فيها. أما ما يفوق ذلك أهمية فهو فهم جميع المنخرطين في الصراع أن الإدارة هي من يعرقل حسمه، وعدم وجود مواقف قوية حاسمة تجاهها، أي على عكس ما يُشاع من تردي هيبة أمريكا، لا تزال هيبتها سارية المفعول. وإذا رأينا تراجع حلفاء النظام أمام التهديد الأميركي الذي أدى إلى صفقة الكيماوي فإننا شهدنا مراراً تراجع داعمي المعارضة أمام الضغوط الأميركية لوقف تقدمها. لا يقل أهمية على الصعيد الأخلاقي أن الإدارة جعلت من إبادة السوريين مسألة “تقنية” ضمن توصيفها لما يجري بالحرب الأهلية. مندوب النظام استعار المفهوم نفسه في جلسات مجلس حقوق الإنسان الأخيرة لوصف استخدام البراميل بالأمر التقني أو الفني. على ذلك لم يعد الإعلام العالمي عموماً يكترث بالمقتلة السورية، بل صارت أخبار هذه المقتلة، على قلة تداولها، مدعاة للضجر ولم يعد مستغرباً أن تتفوق عليها مذابح داعش الاستعراضية لأنها تضيف لمسات تلفزيونية أعمق على المسلسل السوري الرتيب، المسلسل الذي يدرك متابعوه أن لا نهاية قريبة له.

لقد سادت مطولاً المقولات عن عرقلة روسيا وإيران للحل في سوريا، مع عدم وجود عزم أميركي كافٍ للضغط على البلدين. كان من نتيجة تلك المقولات توجه بعض داعمي المعارضة إلى روسيا لثنيها عن موقفها، أو حتى شراء موقف مختلف منها. لكن هذا السعي كما أثبتت التطورات لم يؤتِ ثماره. تظاهرُ القيصر الروسي بامتلاكه أوراقا مهمة ورفع ثمنها هو استثمار رخيص آخر فوق الاستثمار الأميركي. إذا صحت النوايا حقاً هناك سبيل واحد لا بد من سلوكه، وهو مواجهة أوباما مباشرة والتفاوض معه جدياً من قبل المعارضة وداعميها. فإما تكون إدارته جاهزة للمساومة أو لا تكون، وحينها إما أن يكون المفاوضون قادرون على انتزاع استقلالية قرارهم أو لا يكونون. وإذا لم يكونوا قادرين على تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية أسوة بنظام الكيماوي فليهددوا على الأقل بكشف خفايا الحبكة المملة لهذا المسلسل الدموي.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى