صفحات سوريةنبراس شحيد

سوريا بين أسماء «الله» وأسماء الموت


نبراس شحيد

المشهد المتكرِّر

تتعدّد أسماء الموت في سوريا: الموت بشظية قذيفة، الموت برصاصة قناص، الموت تحت التعذيب، الموت تحت الأنقاض، الموت من شحّ الدواء، تتعدّد الأسماء، والموت واحد، يرسمه الفنانون السوريون اليوم «بكمراتهم»، فترشح إلى الذاكرة هذه اللوحة المؤلمة التي بقيت من دون توقيع (2011/10/23): طارق الأحدب ملقىً على الأرض، والمشهد معتمٌ في الخالدية، ورصاص القناصة يحول دون انتشاله. الجميع يترقب. يندفع شابٌ باتجاه الجثة، فيصرخ أحد الموجودين قائلاً: «الله حاميك!»، لكن… ما إن يبتدأ محمد فاضل بجر الجسد الساكن إلى الحارة الضيّقة حتى يخرّ شهيداً، ليتردّد في الذاكرة صوت انفجار الطلقة النارية، ويتفجّر السائل القاتم من الجثة الصريعة. جثتان مكوّمتان إحداهما على الأخرى في مشهدٍ مفجع، والإنارة خافتة. كان هذا العناق الأخير، وتتعالى أصوات التكبير!

تكرار الإسم

يتكرَّر مشهد الموت هذا كل يوم، ومعه دعاء المستضعفين إلى الله، لكن… لا «يحمي» الله الشهداء كما نتمنى! وعلى الرغم من ذلك، تثابر النسوة النائحات في طلب الانتقام له. لم «يحمهم» الله كما نرغب، لكن المشيعين لا يكفّون عن قلقلة ما يشبه «الصمت الأزرق»: «يا الله لم يبقَ لنا سواك!»؛ لم «يحمهم» الله، لكننا لم نتوقّف يوماً عن مناجاته من شوارع الموت، ومن أقبية السجون، ومن أمام برادات المستشفى. مسلمون، مسيحيون، علمانيون، لا فرق، فالموت واحد، والجميع يذكر اسم «الله» اليوم في سوريا! هو الإيمان ربما، أو الخوف من شيءٍ ما، ربما، أو القلق من اللاشيء. أياً يكن، لا يهم، فمن المؤكّد أن أسماء الموت عديدة، وأن أسماء «الله» كثيرة، وأن الأسماء تلازمت، وأن الموت واحد.

الاسم القاتل

لكن، أن يرتبط اسم «الله» بالموت أمرٌ، وأن يصير الموتُ اسماً من أسماء «الله» أمرٌ آخر! يصير اسم «الله» قاتلاً عندما تُختزل الثورة عند البعض في حربٍ بين طائفتين؛ يصير اسم «الله» قاتلاً عندما يوزِّع التكفيريّون اللعنات يمنةً ويسرة؛ يصير اسم «الله» قاتلاً عندما يبرِّر علماء النظام إبادة المتظاهرين؛ يصير اسم «الله» ديكتاتوراً عندما يعادي حرية الإنسان؛ يصير اسم «الله» ظالماً عندما يحدِّد دين رئيس الدولة؛ يصير اسم «الله» موتاً عندما لا نعود نختلف في دلالاته؛ يصير اسم «الله» خطراً عندما يُراد منه الاتكاليّة لا التوكل؛ يصير اسم «الله» صبيانياً عندما تدعو بعض الكنائس إلى «التصويت بالموافقة» على «الدستور الجديد» في شتاء الرصاص، وكأنّ الشعوب أطفالٌ لا رأي لها؛ يصير اسم «الله» مدمِّراً عندما يتحوّل الاسم إلى مجرد بديلٍ عن رغبتنا في الانتقام… لهذا، يهجر البعض اسم «الله» عندما يصير موتاً مرعباً!

الاسم الآخر

تقول السيدة إنصاف محمد، المفجوعة بولدها، لمن يضمرون الشر لقاتله ( 2011/12/29): «من أجل الله، أحبوا قبل كل شيءٍ من يكرهكم كي يتعلم كيف يحب!» فيقولون لها: «لكن الحقد يملأ قلبه!»، فتجيب: «يوماً بعد يوم سيتعلم… من أجل الله أحبوا بعضكم بعضاً!»

أيّاً يكن سبب الموت، وأيّاً تكن هويّة القاتل، وبغض النظر عن العقائد، وسواءٌ آمنا بوجود الله أم لم نؤمن، تنسف كلمات الأم هذه أجيالاً مديدة من الأسماء المرعبة! إنه «الله» باسمٍ جديد…

آخر الأسماء

أحد آلاف الشهداء السوريين مات من دون دين! كان يصرخ مع المتظاهرين «على الجنة رايحين شهداء بالملايين!»؛ كان يصرخ لأنه معهم، لأنه يحبهم، لكنه لم يكن مؤمناً! رصاصةٌ «ممانِعة» أردته شهيداً، لكن… من دون أن يكون له إلهٌ يحميه أو يكافئه أو ينتقم له. مات من دون سماءٍ تظلله. مات عارياً! لم يحلم بجنة، ولم يخف من نار، ولم يرغب في بطولة، ولم يشته الموت. مات من دون «لمَ؟»، فكان لكل المتدينين مصدر رجاء! مات فذكّرنا بأن الوطن لا دين له، وبأن الحرية لا دين لها، وبأن «الله» لا دين له، وبأن «المجانية» قد تكون من أسمائه الحسنى…

(راهب يسوعي من سوريا)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى